في ضيافة الرحمن

اشارة

نام كتاب: في ضيافة الرحمن

نويسنده: محمد مهدي الآصفي

موضوع: احكام و مناسك

زبان: عربي

تعداد جلد: 1

ناشر: نشر مشعر

مكان چاپ: تهران

سال چاپ: 1431 ه. ق.

نوبت چاپ: 1

ص: 1

رحلة إلى الله تعالى

قد كانت هذه الرحلة بدعوة من الله تعالى على لسان عبده وخليله إبراهيم (ع): (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)؛ وتتم الرحلة كلها في ضيافة الله.

فالحجاج وفد الله وضيوفه تعالى، لا شك في ذلك، والتلبية التي يرفعها الحجاج إلى الله تعالى في الميقات، إعلان لإجابة هذه الدعوة التي أعلنها إبراهيم (ع) من جانب الله لعباده، ولا تزال أجيال المؤمنين يُلَبّون هذه الدعوة جيلًا بعد جيل إلى اليوم، وإلى أن يأخذ الله الأرض ومن عليها.

و في هذه الرحلة بعد التلبية يدخل الحاج دورة تدريبية رمزية للتحرر من أهم عقبتين في الطريق إلى الله، وهما (الأنا) و (الهوى).

و يتم هذه المواجهة والتحرر الرمزيان من (الأنا) و (الهوى) في بداية الرحلة في محرمات الإحرام بعد التلبية، مباشرة، فإنّ تحريم المخيط من الأزياء للرجال،

ص:1

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

ص: 6

والتجرد عن الملابس والأزياء القومية والوطنية، وتحريم الجدال في الحج يحمل معنى محاولة الحاج للتحرر من (الأنا) وتحريم ممارسة العلاقة الجنسية يحمل معنى محاولة التحرر من (الهوى) في هذه الرحلة، ولو كان بصورة رمزية.

و هما يحملان واحدة من أعظم معارف الحج، وهي أنّ التحرر من سلطان الأنا والهوى، (و ليس من الأنا والهوى) هو الشوط الأول من الطريق ... وليس يتأتَّى للعبد أن يسلك الطريق الصعب إلى الله، وهو يخضع لسلطان الأنا والهوى.

و تتمّ هذه الرحلة بصورة جماعية، فلا يُقْبل ضيوف الرحمان على الله في هذه الرحلة فرادى، وإنما يقبلون على الله مجتمعين في مكان واحد وزمان واحد.

و هي عبادة ورحلة فريدة في نوعها، فلستُ أعرف عبادة يجمع المستطيعين للعبادة، من كل أقاليم الأرض من الموحّدين، في مكان واحد وزمان واحد، غير هذه العبادة.

و كلما يكون الاقبال على الله جمعيّاً، يكون القبول من الله تعالى لعباده أسرع وأكثر؛ فيتقبّل الله تعالى المسيئين منهم بمن أحسن، وضعفائهم بأقويائهم.

ففي رحلة الصلاة فنقول كل يوم عشرة مرات: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فنعرض على الله عبادتنا ضمن عبادة عباده الصالحين بصورة جمعيّة؛ هكذا (نعبد) ونطلب من الله الاستعانة، ضمن طلب الصالحين من عباده للاستعانة؛ هكذا (نستعين)، فإنّ الله تعالى لايرد عبادة الصالحين من عباده، ولايرد طلب الاستعانة من عباده الصالحين، وهو تعالى أكرم من أن يبعّض الصفقة الواحدة من الطلب، فيتقبّل البعض ويَرُدّ البعض.

ونحن نقدم عبادتنا لله، واستعانتنا به، صفقة واحدة مع سائر عباده، وهكذا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

و كذلك في رحلة الحج يقف الحجاج كلهم جميعاً في عرفة، في مكان واحد

ص: 7

وزمان واحد، يرفعون أيديهم إلى الله تعالى بالدعاء والاستغفار، ليتقبل الله تعالى دعاء مسيئهم بدعاء محسنهم، واستغفار المسيئين منهم باستغفار المحسنين منهم.

و على العموم: الحج رحلة فريده في نوعها إلى الله، ولستُ أعرف عبادة أخرى، تجمع الخصائص التي جمعها الله لهذه الرحلة، وهي رحلة العمر كله، فإنّ الحج الواجب حج واحد في العمر كله، ومعنى ذلك أنّ المواهب التي يكتسبها الحاج في الحج يكفيه لكل العمر، إذا أحسن الاستفادة منها والمحافظة عليها، وأنّ الزاد الذي يتزود به الحاج في الحج، يغنيه لرحلة العمر كلها، إذا أحسن المحافظة عليها.

و ليس يتيسر لأغلب الحجاج الحج مرة أخرى ... غير الحج الواجب، ولذلك فإنّ من الضروري جداً أن يحضّر الحاج نفسه تحضيراً كاملًا للتزود من مواهب الحج، و هي عظيمة وكثيرة، وكل حاج يتزود من هذه الرحلة الإلهية الفريدة بقدر ما يتسع له وعاء نفسه؛ ووعاء كل إنسان بقدر ما يحضّر نفسه لاستقبال مناسك الحج والتزود من موائد رحمة الله الواسعة في هذه الضيافة الإلهية الفريدة ... وبقدر ما يحمل من فقه ووعي لمناسك الحج.

ولابدّ للحاج من هذا وذاك، من فقه أحكام الحج ومناسكه أولًا، ووعي معارف الحج وأسراره ثانياً؛ ولعل دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يشير إلى ذلك: (وأرنا مناسكنا).

وبين يدي القاري مجموعة من التأملات في أعمال الحج ومناسكه، يحسن بالحاج أن يقرأها قبل الحج، إلى جانب قراءة دقيقة لفقه مناسك الحج، ليتأتى له أن يتزود من هذه المائدة الإلهية الواسعة المعدّة لضيوف الرحمان بأكثر ما يمكن لأمثالنا.

وقد كتبت أكثر هذه المواضيع خلال رحلة الحج في المرات العديدة التي وفقني

ص: 8

الله تعالى له، وقد رغبت مجلة (ميقات الحج) أن تجمع هذه المقالات في كتاب واحد، تقدمه إلى حجاج بيت الله الحرام، لعلّه ينفع ضيوف الرحمان في التزود من مواهب هذه الرحلة الإلهية العظيمة.

فشكراً لفضيلة السيد قاضي عسكر، وفضيلة الشيخ المقدادي اللذين تحمّلا عني هذه المهمة؛ جزاهما الله خيراً.

و أسأل الله تعالى أن ينفع به ضيوفه و وفده، وأن يجعله زاداً لكاتبه يُقدّمه بين يديه، يوم يُقْدِمُ عليه تعالى ببؤسه، وفقره، وفاقته إلى رحمته، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

محمّد مهدي الآصفي

النجف الأشرف/ في شعبان 1430 ه-

ص: 9

المراحل الثلاثة في رحلة الحج

اشارة

ص:10

ص: 11

الرحلة الكادحة إلى الله

رحلة الإنسان إلى الله تعالى رحلة كادحة متعبة، تبدأ ب- (الأنا والهوى) وتنتهي إلى لقاء الله ... يتم للإنسان فيها التحكم على (الأنا والهوى) بشكل كامل، (ولا يقضي عليهما).

و لايتمّ للإنسان هذه السيطرة والتحكم في (الأنا والهوى) إلّا بعد جهد شاق، وكدح عسير ... (إنَّكَ كَادِحٌ إِلَى ربِّكَ كَدْحًا)، وهذا الكدح العسير هو في مواجهة (الأنا والأهواء) المغروستين في عمق النفس وفي مواجهة (الفتن) الموزعة على ساحة الحياة، وما بين (الأنا والهوى) من جانب، و (الفتن) من جانب آخر، من التجاذبات القويّة المهلكة للنفس.

و هذا هو معنى الابتلاء الذي جعله الله تعالى على طريق الإنسان إليه عزّ شأنه، ولا يرقى الإنسان إلى الله إلّا من خلال هذه الابتلاءات الصعبة، العسيرة الكادحة، والغاية في هذه الرحلة الكادحة هي لقاء الله (فَمُلاقِيهِ).

و لكن هذه الحركة الكادحة للتحرر من سلطان (الأنا) و (الهوى) و (المغريات والفتن) التي تعيق حركة الإنسان إلى الله، لا تتم إلّا من خلال الوسط الاجتماعي، والحشر في وسط الناس، وليس من خلال الاعتزال عن الناس

ص: 12

بالحياة الرهبانية.

فقد جعل الله تعالى الطريق إليه، للتحرر من سلطان الأنا والهوى والمغريات التي تعيق حركة الإنسان إليه تعالى، من خلال حركة الجمهور المؤمن الراشد، وليس في الرهبانية والاعتزال و الخلوات، كما يسلك الرهبان الطريق إلى الله، بالهروب عن الناس والفتن والمغريات والمثيرات، لتسهيل أمر الحركة إلى الله. (1)فهذه ثلاث نقاط جوهرية في الحركة إلى الله:

مجاهدة الأنا والأهواء، لغرض التحكم فيها، وليس لكبتها والقضاء عليها، والانتهاء إلى لقاء الله، وهو غاية هذا الطريق الصعب.

ثم اختيار الوسط الاجتماعي ساحة للانطلاق إلى الله ... وهذه هي النقطة الثالثة في هذه الحركة.

رحلة الحج

و الحج صورة مصغرة رمزية لهذه الحركة الشاقة العسيرة إلى الله، واختزال لمراحل هذه الرحلة الشاقة، وهو ينطوي على هذه المراحل جميعاً، ويتدرج بالإنسان مرحلة مرحلة إلى الله، ويدرّب الإنسان، ويمكّنه من طي هذا الطريق الصعب، وكأنه دورة تدريبية للسلوك الشاق إلى الله ... قد قطعها أبونا إبراهيم (ع) بأمر من الله من قبل، وجاء بعده أنبياءالله:، ثم من بعدهم رسول الله وخاتم الأنبياء (ص) على نهجه ومسلكه بأمر من الله في سلوك هذه المراحل الرمزية إلى الله، ونحن نسلك هذا الطريق، ونأخذ بهديهم، ليعيننا الله تعالى على سلوك المراحل الشاقة الكادحة إلى لقائه عز وجل (يا أيُّهَا الإنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).


1- لا نرفض مطلقاً الخلوت السلوكيّه التي يختارها السالكون إلى الله تعالى- ولكنها- ليست المنهج العام في الإسلام للعبادة والتربية والتزكية والحياة الاجتماعية

ص: 13

و تبتدأ هذه الرحلة (الاختزالية) بالميقات، وتنتهي بطواف الوداع (المعروف بطواف النساء)، ونحن نشير إن شاء الله إلى المراحل الثلاثة التي يقطعها الحاج في هذه الرحلة النموذجية من الأنا والهوى إلى الله.

المرحلة الأولى: التحرر من الأنا و الهوى

اشاره

تبدأ هذه الرحلة من الميقات بتجاوز الذات والأنا، ومحاولة الانصهار في المسيرة الإيمانية إلى الله تعالى؛ وهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الإلهية.

و يصبّ الناس بعد تجرّدهم (الرمزي) من حالة (الأنانية) و (الأنا) في الحشد البشري الكبير في الطواف حول البيت، كما تصب السواقي والأنهر الصغيرة في البحر الكبير، فلا تستطيع أن تميّز بعد ذلك موقع هذه السواقي من البحر الكبير.

بداية هذه الرحلة (الميقات)، حيث يحاول الإنسان أن يتجرّد عن ذاته وأهوائه وخصائصه التي تميّزه عن الآخرين بالإحرام، وينصهر في المسيرة الإلهية الحاشدة، التي لا يتمايز فيها الأفراد.

في الميقات تتساقط هذه الحواجز، وينصهر الناس في الحشد الرباني العظيم المتدفق إلى المسجد الحرام، لا يتميز فيها العربي من الكردي والفارسي عن التركي، ولايتميز فيها الغني عن الفقير.

إنّ الميقات حد فاصل بين (الأنا)، وبين الأُمّة المؤمنة.

ص: 14

و قبل أن يدخل الحاج الميقات يعيش كما يعيش سائر الناس متمايزين، منفصلين، ولل- (أنا) تمييز وتشخيص، ولل- (أنا) تظاهر وبروز في حياتهم، ولل- (أنا) سماته ومعالمه الواضحة في حياتهم، فإذا دخل الميقات تضاءل (الأنا)، وخفّ صراخه وصوته، وفقد جملة من معالمه ومميّزاته، وفقد لونه وصيغته الصارخة؛ وهذا الانقلاب في الشخصية ينبغي أن يتم في (الميقات)، ويرمز إلى هذا الانقلاب (لباس الإحرام)، وقد قلنا إنّ الحج يعبر عن المعاني والمفاهيم التي ينطوي عليها بلغة الرمز.

عند الميقات يتجرّد الحاج من كل ملابسه، وما تحمله ملابسه من سمات شخصية، وطبقية، وقومية، وإقليمية. إنّ لباس الإنسان يحمل هوية الإنسان، ويحمل الإشارة إلى شخصية الإنسان وانتمائه القومي، والإقليمي، والعشائري، وطبقته، ومهنته، ودرجته في الثراء والفقر، والمستوى الاجتماعي.

فإذا بلغ الحاج الميقات تجرّد عن ملابسه، ولبس ثياب الإحرام إزاراً ورداء ... قطعتين من القماش، لم يستعمل فيهما الخيط كالآخرين، على نحو سواء، في غير بذخ، ولا ترف، ولا تمييز، وخلع عن نفسه ملابسه التي كانت تحمل هويته، وتعبر عن شخصيته؛ إنّ هذه الخطوة الأولى في الميقات تعبّر عن تجرّد الإنسان عن هويته، وشخصيته، وأنانيته، وعن عبور الذات وتجاوز (الأنا).

و كما يُجرّد الميّت عن ملابسه، لأنّ دور الأنا في حياته قد انتهى، ولم يعد للأنا حجم ولا دور، لا شكل في المرحلة الجديدة من حياته، كذلك الميقات، يتجرد فيها الحاج عن هويته و ذاتيته، وكأنّ الميقات مصفاة، وأول شي ء تأخذه هذه المصفاة من الإنسان هو ذاته، فإذا تجرد عن الأنا، وانسلخ عن ذاته أو حاول ذلك، حقَّ له أن يتجاوز الميقات إلى الحرم، وما لم يتخلّص الإنسان عن ذاته، فلا يتمكّن أن يواصل الرحلة إلى لقاء الله ... فإذا خلص في هذه المصفاة من ثقل الذات اجتاز

ص: 15

الميقات توجه إلى الحرم.

و إنّ أكثر ما يثير المتاعب في حياة الناس، ويعكّر العلاقة فيما بين الناس، هو التصادم والتخالف الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات عند الإنسان، وتنصهر، ويخلص الإنسان عن طغيان (الأنا) ينتهي شطر كبير من مشاكل الإنسان ولقاءاته السلبية مع الآخرين، وما يستتبعه من صدام، وتردي العلاقة، وحالة الإثرة، والأنانية، وحبّ الذات، فإذا خلصت حياته من سلطان الذات والأنا سلم الإنسان من هذه المشاكل والمتاعب التي تعج بها حياة الناس وتمكن من أن يضع حياته وعلاقاته الاجتماعية على أسس سليمة وأن يحكّم السلام في علاقاته مع الآخرين.

التجمّل والترف

و في الميقات يخلص الإنسان من خصلة أخرى من خصال (الأنا)، وهي خصلة ممدوحة لو كانت في الحدود المعقولة التي لا تستأثر باهتمام الإنسان كله، ولا تملك إرادة الإنسان، ولا تَحْكُمها فإذا تحولت هذا الخصلة إلى خصلة حاكمة على إرادته كانت صفة ذميمة للإنسان.

و تلك هي خصلة التجمّل، فهي خصلة ممدوحة، في الحدود التي تظهر على الإنسان نعم الله تعالى وفضله، فإذا تحوّلت إلى خصلة من خصال الذات، مهمتها إبراز الذات وإظهارها، لا إبراز نعم الله تعالى، كانت من البطر والرئاء، وتحولت إلى صفة ذميمة تسلبه القدرة على تحمّل الشظف، وسلوك طريق ذات الشوكة، والإسلام لا يكافح هذه الخصلة، وإنما يعدّلها ويهذّبها.

و في الميقات يدخل (الأنا) في هذه التصفية الإلهية، ويلزمه الإحرام بالتخلي في فترة الإحرام، من هذه الخصلة، ويحرّم عليه الطيب والتجمّل، حتى

ص: 16

بالنسبة للنساء فيما يتجاوز الحد المألوف للمرأة في التجمّل ليتمكّن الإنسان في نفسه من هذه الخصلة التي تشكّل حالة تظاهر للأنا، وحالة ترف تؤثر تأثيراً سلبياً على إرادة الإنسان وقدرته في مواجهة متاعب الطريق، إذا لم يعمل على تعديل هذه الخصلة، وتهذيبها، وإرجاعها إلى نصابها الممدوح الذي يُقرّه الإسلام ويأمر به.

سلطان الهوى والشهوات

و في الميقات يمرّ الإنسان بتصفية ثالثة، وهي تخليص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات والغرائز، وهي مسألة في غاية الدقة في الإسلام، وقد قلنا تخليص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات، ولم نقل من الهوى والشهوات، وبينهما فرق، وذلك لأنّ الإسلام لا يكافح الأهواء والشهوات في نفس الإنسان، وإنما يعتبرها ضرورة من ضرورات الحياة، ومن دونها تختل الحياة، وإنما الذي يكافحها الإسلام هو سلطان الهوى والشهوات على الإنسان وإرادته.

و ليس الأهواء والشهوات في حد ذاتها مصدر للانحراف، والسقوط في حياة الإنسان، وإنّما الانحراف والسقوط يأتي من ناحية سلطان الهوى على إرادة الإنسان، فإذا تمكّنت الأهواء والشهوات من الإنسان، وخضع الإنسان لها عند ذلك فقط، يتمكن الشيطان من الإنسان، ويتعرض للسقوط والانحراف، ولذلك فإنّ المنهج الإسلامي في التربية يعمل على ترويض الأهواء وتطويعها لإرادة الإنسان، وتمكين الإرادة منها، دون أن يكافحها ويحاربها ويستأصلها ويصادرها.

و (الصوم) نموذج واضح لهذا المنهج التربوي، و (الميقات) هو الآخر يقع في

ص: 17

هذا الخط التربوي، ففي الميقات يتعرّض الإنسان لتصفية واسعة في (الأنا) و (الهوى)، يمتص منها سلطان الأنا والهوى، ثم يسمح له بالدخول في رحاب ضيافة الله تعالى، بعد أن يجرده من هذه النزعة الحيوانية التي تطغى على تصرفاته وتحكم إرادته وفعله.

و الهوى عندما يحكم الإنسان يتحول إلى مصدر للشرّ في علاقات الإنسان وحياته الاجتماعية، يسلب الأمن والسلام من حياة الناس، فليس ما بين الناس من خلاف، وصراع، وصدام، مصدره الاختلاف في الرأي غالباً، وإنما يعود السبب في نسبة كبيرة وواسعة من هذه الخلافات إلى عامل الهوى في العلاقات الاجتماعية.

و للإمام الخميني 1 كلمة ذات دلالة عميقة فيما نقول؛ يقول 1: (لو أنّ مائة وأربعة وعشرين ألف نبي عاشوا في مكان واحد، لما اختلفوا فيما بينهم، لأنه لا سلطان للهوى في نفوسهم).

فالميقات نقطة تحول وانقلاب في حياة الإنسان وأهم ما في هذا الانقلاب هو العبور من (الأنا) و (الهوى) وخصالهما في حياة الإنسان، فإذا تجرد عن ذلك، كان مؤهلًا للدخول في رحاب ضيافة الله في الحج، ومن عجب أنّ المذاهب الفكرية المادية تؤكد عكس ذلك، على تعزيز الأنا وتثبيته، واعتماد عنصر الاعتداد بالنفس وتنمية حالة الغرور والعجب، بخلاف الإسلام الذي يضع منهجه التربوي على أصل مكافحة سلطان الأنا، وإضعافه، وتحجيمه، وتحويل الإنسان من محور سلطان الأنا إلى محور عبودية الله تعالى، وسلطانه في حياته، ويدعو الإنسان إلى التحلّل من هذا المحور، والارتباط بالمحور الرباني والانصهار فيه (قُلْ إِنَّ صَلاتِى ونُسُكِى ومَحْياىَ ومَماتِى

ص: 18

لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).(1) و هذه هي المرحلة والسمة الأولى من سمات الحج.(2)

***

المرحلة الثانية: الإنصهار في الجماعة

اشارة

فإذا تجرّد الإنسان عن (الأنا)، وانسلخ عن ذاته، وجد نفسه فجأة في وسط حشد بشري كبير هادر، ينطلق من الميقات إلى الكعبة، كما تصبُّ الأنهر في البحر.

من كل ميقات من هذه المواقيت التي وقّتها رسول الله (ص) يجري نهر كبير من الناس، يتدفق ويصبّ في الحرم حول الكعبة، فتتجمع هذه الأنهر حول البيت الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل 8، وفي هذا الخضم البشريالمتلاطم لا يشعر الإنسان بذاته، ولا يشعر بكينونته الفردية ... وتذوب شخصية الفرد في هذا التيار البشري العظيم، ويتضاءل عنده الإحساس ب- (الأنا)، حتى لا يكاد يشعر به صاحبه، ويقوى عنده الإحساس (بالجماعة) و (نحن) و (الأُمّة) بدل (الأنا والأنا


1- الأنعام: 162
2- لكي يكون تعبيرنا دقيقاً في هذا البحث لابد أن أقول: إنّ هذه النقاط تعبّر عن حالة رمزية للمحاولة للتخلص عن سلطان الأنا والهوى وحالة البطر والرئاء في حياة الإنسان، وتشعر الإنسان بهذه المحاولة لتحجيم سلطان الأنا والهوى في حياته. وهي في نفس الوقت تدخل الإنسان في دورة تدريبية مؤقتة تمكنه من تحجيم سلطان الذات والهوى إذا رجع إلى ساحات حياته الّتي يألفها، وهي (البيت) و (السوق) و (الشارع). واستثناء المرأة من بعض هذه النقاط لاينفي الحقيقة التي قررناها آنفاً؛ فإن حالة الرفق بالمرأة واضح في هذا الاستثناء، فيما يتعلق بأحكام المرأة في الحج؛ ولاينفي ذلك الخط العام الذي شرحناه لدور الإحرام والميقات في حياة الحجاج رجالًا ونساءاً.

ص: 19

والأنا)، فيملأ عليه كل حواسه ومشاعره، فلا ترى في المطاف أفراداً يتحركون، وإنّما ترى كتلة بشرية واحدة من الناس تطوف حول البيت العتيق.

و لو أنّ الحاج الذي تجرد في الميقات لم يكن يصبّ في المطاف في بحر الجماعة المؤمنة لكان يضيع ويفقد مقومات وجوده وشخصيته، كما يضيع الوجوديون اتباع جان بول سارتر، عندما يتجردون عن هوياتهم وماهياتهم التي خلقها الله تعالى عليها (1)، ولكنّه لا يكاد يتجرّد من الأنا ومعالمه وحدوده حتى يستلمه البحر البشري الكبير في المطاف، كما تصب سواقي الماء في النهر الكبير، ويعود في المطاف إلى لون جديد من الحياة، وإلى حياة جديدة لم يألفها من قبل بهذه القوة والفاعلية، ولم يتذوقها بهذه الصورة؛ يموت فيه الأنا، ويبعث الله في نفسه الإحساس بالجماعة، وينتقل إلى طور جديد من الحياة، أهم خصائصه غياب الفردية وحضور الله تعالى في حياته، وسط بحر متلاطم من الناس.


1- مع فارق جوهري بين طريقة تفكير (جان بول سارتر) معلم الوجودية المعاصرة (اكزيستانياليسم) وبين المنهج الإلهي في إعداد الإنسان للقاء الله. إنّ المنهج الإلهي في إعداد الإنسان لا ينفي أنّ هذه الخصال الفردية والاجتماعية والقيم واللّاقيم الموجودة عند الإنسان كله من خلق الله، ومغروسة في الفطرة ... يقول تعالى: خُلِقَ الإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ الأنبياء: 37، إِنَّ الإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً المعارج: 19- 20، وَ كانَ الإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا الكهف: 54، خُلِقَ الإِنْسانُ ضَعِيفاً النساء: 28. إنّ الحياء مغروس في الفطرة، في خلق الله، وليس من إضافات الأعراف الاجتماعية، كما أنّ الشهوات مغروسات في الفطرة، في مرحلة الخلق، وأنّ النزعات الفردية (الأنا، والحسد، والطمع، والإثرة، والجدل، والرياء، وحب المال والموقع ...) من خلق الله، في عمق الفطرة، كما أنّ الخصال والنزعات الاجتماعية من خلق الله (الإيثار، والرحمة، والعاطفة، والإنصاف، وحب الآخرين ...). بينما يرى سارتر والمار كسية أنّ هذه الخصال والنزعات الفردية وكذلك الاجتماعية من إضافات الحياة الاجتماعية، ويولد الإنسان ولا يحمل في نفسه خصلة من هذه الخصال الفردية والاجتماعية، وإنما يضيفه إليه الوسط الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان، ويأخذه الإنسان منه. والإسلام ينفي هذه الكلية، من غير أن ينفي دور الوسط الاجتماعي والتربية في تحكيم هذه الخصال. والفارق الآخر بين النهج الإلهي في إعداد الإنسان للقاء الله، والمناهج البشرية الوجودية والماركسية (وهما متقاربان في هذه النقطة بالذات)؛ إنّ المنهج الإلهي يدعو إلى تحديد وتعديل هذه الخصال والنوازع الفردية، ولا يدعو إلى إلغائها، بينما لانعرف للوجودية والماركسية منهجاً تربوياً لتعديل هذه النوازع في نفس الإنسان. و هذا الموضوع يحتاج إلى بسط، ليس موضعه هنا.

ص: 20

و يقوى هذا الإحساس لدى الإنسان في المطاف، وفي السعي، وفي الموقف في عرفات، وفي الإفاضة إلى المزدلفة، وفي المزدلفة، وفي منى، وفي العودة إلى الطواف والسعي، ويتضاءل لدى الإنسان المسلم الإحساس بالأنا، ويتأكد لديه الإحساس بالجماعة المسلمة، وبأنه عضو من جسم واحد، وليس فرداً من مجموعة إنسانية، وبأن هذه الأُمّة كيان واحد (1)، ومصير واحد، وما يصيبه من خير وشر يصيب الجميع، وما يصيب الجماعة يصيبه لامحالة، وبأنه وحده لايستطيع أن يتحرك إلى الله على خطى إبراهيم (ع) إلّا أن يذوب في هذا الحشد البشري الكبير المتجه إلى الله.

إنّ الناس قبل أن يدخلوا الميقات مجموعة من الأفراد، يتمايزون فيما بينهم، ويتزايدون، ويتكاثرون، ويتفاخرون، ويتجادلون، ويضرّ بعضهم بعضاً، ويعتدي بعضهم على بعض، وتجمعهم المجامع من المدن، والضواحي، والقرى، فتجتمع في هذه المجامع هذه النزعات المتضاربة، والأهواء المتخالفة، والرغبات المتضادة، وتتقاطع، فتكون المجاميع البشرية ساحة للصراع والخلاف؛ أمّا عندما يدخلون الميقات، ويتجاوزونه إلى الحرم، ويصبّون من خلال قنوات المواقيت التي وقّتها رسول الله (ص) إلى الحرم، فإنهم يتحوّلون إلى أمّة واحدة، يتحركون باتجّاه واحد، ويلبّون دعوة واحدة، ويلبسون زياً واحداً، ويطوفون حول كعبة واحدة، ويسعون في مسار واحد، ويؤدون مناسك واحدة، لا يختلفون، ولا يتجادلون، ولا يتفاخرون، ولا يتضاربون، ولايؤذي بعضهم بعضاً، وكأنّ الحرم يصهرهم في بوتقة واحدة، ويجعل منهم كياناً جديداً يختلف عما كانوا عليه.

حرم آمن

و أبرز خصائص هذا التركيب الجديد للمجتمع البشري الذي يستحدثه (الحرم) في حياة الناس هو الأمن والإحساس ب- (الأمن) إنّ هذا الأمن من نتائج هذا


1- إِنَّ هذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً واحِدَةً وأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأنبياء: 92

ص: 21

التركيب البشري الجديد الذي يجده الناس في الحرم، وهو في نفس الوقت من أسبابه وموجباته.

فإنّ الناس إذا شعروا بالأمن، بعضهم من بعض، التقى بعضهم بعضاً في غير حذر، وتعامل بعضهم مع بعض، وتلاقوا، وتآلفوا، وتعاونوا.

فالأمن يُعدّ الناس، ليكونوا أمة واحدة، والأمن يعطي للناس هذه الفرصة التي تتطلبها عملية الانتقال من الحياة الفردية التي يعيشها عامة الناس إلى هذا النمط الجديد الذي يريده الله تعالى لعباده، والذي يرسم (الحرم) نموذجاً لها، كما يصح العكس أيضاً، فإنّ الأمن والإحساس بالأمن هو النتيجة الطبيعية لهذا اللون الجديد من الحياة الاجتماعية، فإنّ الناس عندما يحشرون في الحرم لايختلفون، ولا يتشاجرون، ولا يتفاخرون، ولا يتزايدون، ولايتضاربون.

الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة

و الله تعالى يريد أن يكون وجه الأرض كله آمناً للناس، يعيش الناس بعضهم مع بعض في أمن، ودعة، وسلام، لا يحقد بعضهم على بعض، ولا ينوي أحد لأحد شراً يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه، ويجب بعضهم بعضاً.

يقول تعالى في صفة المهاجرين والأنصار في الصدر الأول من هذا الدين ...

و لكن الناس يرفضون أن يعيشوا كما يريد الله تعالى لهم.

ص: 22

فجعل الله لهم من الحرم (رقعة نموذجية) للحياة الآمنة التي يريدها للناس بدعاء عبده وخليله إبراهيم (ع) (وإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآْخِرِ). (1) و قد استجاب الله تعالى لدعاء عبده وخليله إبراهيم (ع) فقال: (وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وأمْناً). (2)و المثابة، المحل الذي يثوب ويرجع إليه الناس، ويجمع الناس، وقد جعل الله تعالى البيت مثابة للناس، يجمع الناس، ويرجعون إليه، ويقصدونه من كلّ فجّ عميق، ثم جعله آمناً يأمن فيه الناس بعضهم من بعض، ولا يحذر فيه أحد الآخرين على نفسه؛ يقول تعالى: (أوَ لَمْ يَرَوْا أنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (3)، وجعل رقعة الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة كلها، كما جعل الشهر الذي يؤم فيه الحجاج البيت الحرام، وهو (ذو الحجة) من الأشهر الحرم.

يقول الله تعالى: (وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً).(4) وحتى (الجدال) الذي يتضمّن نوعاً من الصدام، يحرمه الله تعالى على الحجاج (فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ فِى الْحَجِّ). (5) و الأمن في الحرم أمن شامل يشمل حتى الحيوان والنبات، فلا يجوز الصيد في الحرم، ولا يجوز قطع النباتات والأشجار فيه، إلّا في حالات خاصة يذكرها الفقهاء، وحرمة الصيد وقطع النباتات لاتخص حالة الإحرام، فإنهما تحرمان على المحُرِم والمحُلّ معاً في منطقة الحرم.

و (الحرم) في الإسلام عينة صغيرة لساحة الحياة كلها، والذي يحبّ أن يعرف


1- البقرة: 126
2- البقرة: 125
3- العنكبوت: 67
4- آل عمران: 97
5- البقرة: 197

ص: 23

رأي الإسلام في الحياة، فإنّ هذه العينة الصغيرة، والرقعة المحدودة من الأرض، تجسد تخطيط الإسلام لساحة الحياة الواسعة.

فإنّ (العلاقة) فيما بين الناس، والارتباط، والتلاقي، هو الإفراز الطبيعي للحياة الاجتماعية، فمن أجل هذه (العلاقة) و (اللقاء) و (التلاقي) خلق الله تعالى الإنسان اجتماعياً، وأعدّه للحياة الاجتماعية، ولايبلغ الإنسان الكمال والنضج الذي أعدّه الله تعالى له إلّا في وسط هذه العلاقات واللقاءات، في الحياة الاجتماعية؛ فلو أنّ إنساناً اعتزل الناس، وعاش وحده في جزيرة قاصية في البحر، لم يبلغ بالتأكيد النضج والكمال الذي أعده الله تعالى له، وهذه اللقاءات والعلاقات إنما تثمر، وتعطي، وتنتج في حياة الإنسان، فيما إذا توفر له الجوّ السليم بالأمن والسلام؛ أمّا عندما تتكوّن هذه العلاقة في جوّ من الريبة، والحذر، والخوف، والقلق، والعدوان، والكيد، والمكر، فإنّ هذه العلاقة والارتباط فيما بين الناس لا تكاد تثمر هذه الثمرة، ولا تكاد تبلغ بالإنسان النضج والكمال الذي يطلبه الإنسان في الحياة الاجتماعية من خلال هذه العلاقات، بل قد تعود العلاقة في مثل هذا الجوّ إلى نتائج سلبية في حياة الإنسان، وهو كثير.

فالإسلام يخطط بناءاً على هذا الفهم، لإقامة شبكة العلاقات فيما بين الناس، وتنظيمها، وتهذيبها، وتحديدها بالحدود الإلهية الآمنة في حياة الناس، ليجعل العلاقة فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية في جوّ آمن وسليم، فيأمن الإنسان الآخرين على نفسه في حضوره، وغيبته، وفي نفسه، وعرضه، وماله، كما يأمنه الآخرون على أنفسهم و أعراضهم وأموالهم في الحضور والغياب، ويعيش في جوّ من الأمن الشامل، ويبني علاقاته كلها مع الآخرين في هذا الجوّ الآمن، في السّراء والضّراء، وفي التجارة والبيع، وفي الزواج والعلاقات الاجتماعية، وفي علاقاته مع أصدقائه وزملائه، وفي علاقاته مع أعضاء أسرته، وفي ارتباطه بمن هو فوقه ومن هو دونه، وحينما يأخذ

ص: 24

وحينما يعطي، وحينما يحتاج إلى الآخرين، وحينما يحتاج إليه الآخرون.

يخطط الإسلام و يعمل ليجعل (العلاقة) فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية على كلّ الأصعدة في جوّ من الأمن والسلام، لتعطي هذه (العلاقة) الثمرات المطلوبة منها في الحياة الاجتماعية، ويسعى الإسلام في هذا التنظيم والتخطيط الشامل للعلاقات الاجتماعية، ليجعل الحياة الاجتماعية حياة آمنة مطمئنة، يعيش الناس فيها بسلام.

(و الحرم)- كما قلنا- عيّنة صغيرة نموذجية من الحياة الآمنة والمطمئنة التي يطلبها الإسلام ... و (الإحرام) عينة أخرى نموذجية للحالة التي يطلبها الإسلام للناس في الحياة الاجتماعية في علاقة بعضهم ببعض.

و يعود الحجاج من (الإحرام) و (الحرم) إلى واقع حياتهم، ليأخذوا معهم النموذج الإلهي للحياة وللعلاقات الاجتماعية، ويعيشوا حياتهم بها، أو بما يقرب منها.

***

المرحلة الثالثة: الإنتقال إلى المحور الإلهي

وهذه هي المرحلة الثالثة من رحلة الحجّ الإبراهيمي

في المرحلة الأولى يتخلّص الإنسان من فرديته، و أنانيته، و أعراض هذه الأنانية.

و في المرحلة الثانية يصبّ في الحرم في الجماعة المسلمة، وينصهر في هذه الجماعة (الأُمّة).

و في المرحلة الثالثة وهي الغاية الأخيرة في هذه الرحلة تصبّ هذه الجماعة في المطاف حول الكعبة، لتطوف حول الكعبة.

و الكعبة في لغة الحجّ الرمزية: هي المحوريه الإلهية في حياة الإنسان، وإذا

ص: 25

استطاع الإنسان في المرحلة الأولى من هذه الرحلة أن يتخلص من جاذبية محور (الأنا) في حياته، فإنّ المحور الإلهي يجذبه جذباً قوياً بطبيعة الحال إلى المحور الرباني.

و انجذاب الإنسان إلى هذا المحور أمر طبيعي كامن في عمق فطرة الإنسان، و (الأنا) هو الذي يحجز الإنسان عن هذه الجاذبية، فإذا تحرّر الإنسان عن حاجز سلطان (الأنا) فإنّ الجاذبية الإلهية تجذبه و (الطواف) بعد الإحرام من الميقات يرمز لذلك.

و عليه فإنّ حركة الطواف نقلة رمزية تعليمية في حياة الإنسان من الأنا إلى الله تعالى، و تعبير رمزي عن التوحيد في حياة الإنسان المسلم، إلّا أنّ هذا التوحيد ليس هو التوحيد النظري الذي يعرفه الناس، وإنما هو توحيد العبودية لله، وتوحيد الحبّ، والولاء، والاهتمام، كما ترسمه الآية المباركة: (قُلْ إِنَّ صَلاتِى ونُسُكِى ومَحْياىَ ومَماتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وبِذلِكَ أمِرْتُ وأنَا أوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). (1)إنّ الطواف يرمز إلى الحركة الإنسانية الدائمة والمستمرة حول هذا المحور الإلهي في التاريخ، وإننا لننظر من بعيد إلى حركة التاريخ، فنرى: أنّ حركة التاريخ تجسّد (التوحيد) في حياة الإنسان، وأنّ الأنبياء: وأممهم- إلّا في فترات قصيرة- يجسّدون هذه الحركة البشريه الدائمة حول محور الألوهية، فنشعر بحركة واحدة متصلة متواصلة، يتلقاها رسول من رسول، ونبي عن نبي، منسجمة وعلى صراط واحد، هو صراط الله المستقيم، ولكن عندما ندخل نحن ضمن هذه الحركة، فسوف نواجه ألواناً من المضايقات، والأذى، والمشاكسات من الهوى في داخل أنفسنا، ومن الطاغوت في المجتمع، ومن شياطين الجن والإنس، الذين يضايقون الناس في حركتهم إلى الله، ومن التنافس، والتنابذ، والاختلاف، والتقاطع داخل الحركة، فيما بين المؤمنين أنفهسم.

و حركة الطواف حول الكعبة تجسد هذا الواقع بالدقة ... فإذا أطلّ الإنسان من


1- الأنعام: 162- 163

ص: 26

أعلى إلى المطاف، يرى حركة دائرية لجماهير الطائفين بصورة مستمرة، وكأن أرض المسجد الحرام تطوف بهم حول البيت على شريط متحرك في حركة منظمة وهادئة، أمّا إذا دخل في المطاف، التقى بالوجه الآخر لهذه الحركة الإنسانية حول المحور الإلهي، من المعاناة، ومواجهة العقبات، والمضايقات، والتدافع، وهو يختلف اختلافاً كبيراً عن الوجه الأول الهادئ والمريح.

لماذا عبر الانصهار في الجماعة؟

في هذه الرحلة نحن نفهم المنطلق والغاية في حركة الإنسان بصورة دقيقة، فالمنطلق الذي ينطلق منه الإنسان هو تجاوز الأنا والذات، ويعبّر الإحرام في الميقات عن هذا المنطلق.

و الغاية هي الحركة إلى الله تعالى، وتوحيد الله تعالى، ويرمز الطواف إلى هذه الغاية.

و لكن الإنسان في الحج يصل إلى هذه الغاية عبر الانصهار في الجماعة المسلمة، ومن دون الانصهار في الأُمّة المسلمة لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية.

إنّ التخطيط الإسلامي للحج يؤكّد على ضرورة حضور الأُمّة المسلمة، وتواجدها في موسم الحج، من كلّ فجّ عميق.(1)

(وَ أذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَاْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). إنّ هذا الأذان، والأمان الجمعي، والدعوة الإلهية العامة للحج من قبل الله ورسوله، والاستجابة، والتلبية الجمعية من قبل الناس، من كلّ فجّ عميق، يشكل بالتأكيد بعداً هاماً من أبعاد الحج.

و عندما نستعرض آيات الحج، و (الكعبة) و (البيت) في القرآن، منذ أن رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، نجد اهتماماً كبيراً بحضور جمهور الناس في


1- الحج: 27

ص: 27

هذا البيت، وفي هذا الموسم، وأبلغ ما في ذلك تعبير القرآن عن بيت الله بأنه بيت الناس: (إِنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبارَكاً وهُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ومَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). (1) و من عجب أنّ الله تعالى يخصّ الناس- عباده- بأول بيت، وأشرف بيت، ويعلن عنه أنه بيت للناس، ثم يدعو الناس إليه: (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ).

و في دعاء إبراهيم (ع) نجد أنّ إبراهيم، خليل الرحمن، عندما أودع أهله وذريته بهذا الوادي القاحل غير ذي زرع، دعا الله تعالى أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم: (فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). (2)و نقرأ في سورة البقرة: (وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وأمْناً). (3) فالبيت مثابة للناس، يجتمع الناس حوله، ويثوب إليه الناس، ويجمع الناس من كل حدب وصوب، ثم نقرأ أننا في سورة المائدة:

(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ).(4)

فالكعبة تقوّم حياة الناس، وتَقوُم حياة الناس بها، وعند الإفاضة يأمر الله تعالى عباده أن لا ينفرد بعضهم عن بعض في الإفاضة، وإنما يفيض كل منهم من حيث أفاض الناس: (ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أفاضَ النَّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ). (5) إذن حضور جمهور الناس حول البيت، وتواجدهم في الموسم، وانصهار الفرد في البيت والحرم في وسط جمهور الناس، شي ء أساس في الحج، في طريق حركة الإنسان، في هذه الرحلة الإبراهيمية، إلى الله تعالى.


1- آل عمران: 96- 97
2- إبراهيم: 37
3- البقرة: 125
4- المائدة: 97
5- البقرة: 199

ص: 28

ونتساءل بعد ذلك لماذا؟

ونتساءل بعد ذلك لماذا؟ (1)

و هو سؤال هامّ يرتبط بسرّ من أسرار هذا الدين، فإنّ هذا الدين يحرك الإنسان إلى الله تعالى، ولكن من خلال الحضور في وسط الناس ... وليس من داخل الكهوف والمغارات في أعالي الجبال.

فالحج حركة إلى الله، ولكن من خلال الانصهار في الناس، والصلاة معراج كل مؤمن، ولكن من خلال الجماعة، وحتى الاعتكاف الذي هو نحو من الخلوة يتمّ في المسجد الحرام، ومسجد النبي (ص)، والمسجد الجامع في الكوفة، والمسجد الجامع في أيّ بلد، وليس في مساجد الصغيرة، فنسأل مرة أخرى: لماذا لا تتم حركة الإنسان إلى الله في الحج إلّا من خلال الانصهار في الناس، ومن خلال الحضور في وسط الناس؟


1- يوجد نوعان من الخلوات السلوكيه: خلوات للتأمل والتفكير، وهي خلوات مشروعة، وقد كان رسول الله 9 يمارس هذه الخلوات قبل المبعث، ولم يرد نهي في الشريعة عنها، ولكنها محدودة. والنوع الثاني من الخلوات، خلوات للعبادة ومجاهدة النفس وكفّ النفس عن شهواتها وأهوائها، واعتزال الحياة الاجتماعية الحافلة بالمغريات والمزالق ... وقد نهت الشريعة عن هذا النوع من الخلوات واعتبرتها من الرهبانية المحظورة في الإسلام. وقد روي أنّ رسول الله 9 جلس يوماً للناس ووصف يوم القيامة ولم يزدهم على التخويف، فرقّ الناس، وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يقربوا النساء، ولا الطيب، ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدينا، ويسيحوا في الأرض، ويترهّبوا؛ فبلغ ذلك النبي (ص) ... فأتى منزل عثمان، فأخبرته زوجته بذلك، فأتى هو وأصحابه إلى النبي (ص)، فقال: إني لم أؤمر بذلك، ثم قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أصوم، وأفطر، وأقوم، وأنام، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، ثم جمع الناس، فقال: ما بال قوم حرّموا النساء، والطيب، والنوم، وشهوات الدنيا..، وأما أنا فلست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً، إنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء واتخاذ الصوامع، إنّ سياحة أمتي في الصوم، ورهبانيتها في الجهاد. (عوالي اللئالي 42: 2) وفي رواية أخرى، جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي 9 فقالت: يا رسول الله! إنّ عثمان يصوم النهار، ويقوم الليل، فخرج رسول الله مغضباً يحمل نعليه، حتى جاء إلى عثمان، فوجده يصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله 9، فقال له: يا عثمان! لم يرسلني الله بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم وأصلّي، وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنتي، ومن سنتي النكاح. (بحارالانوار 22: 264)

ص: 29

والجواب:

إنّ من غير الممكن أن يتجاوز الإنسان (الأنا) في عزلة من الناس، وهو شرط أساس في الحركة إلى الله تعالى.

إنّ الإنسان قد يتصور إذا اعتزل الناس وابتعد عن الحياة الاجتماعية، يتحرّر من الأنا والهوى، ولكنه يخطئ كثيراً، فإنّ نزعات الأنانية تبقى مطوية في خبايا دهاليز النفس العميقة، وهو غير شاعر بها، فإذا دخل الحياة الاجتماعية، واحتك بالناس وأثاره الناس، برزت هذه النزعات المخبوءة على السطح الظاهر من شخصيته، ولا يمكن اجتثاث هذه النزعات، والقضاء عليها، إلّا في وسط الحياة الاجتماعية.

إنّ هذه النزعات لايمكن استئصالها إلّا من خلال صراع مرير مع النفس في وسط الحياة الاجتماعية، ولا شك أنها تختفي في حياة العزلة والرهبانية، وتبقى كامنة ومختفية في النفس، ولكنها عندما تصادف فرصة مناسبة، وجوّاً مناسباً، تبرز مرة واحدة، ولذلك نجد فشل وانتكاسة الكثير من التجارب الرهبانية عند أوّل احتكاك بالحياة الاجتماعية.

إنّ الحقيقة المؤسفة في هذه التجارب التجريدية للنفس: أن النوازع الفردية لم تنته، ولم تمت أثناء التجربة الرهبانية، ولكنها تخمد لعدم وجود الوسط الملائم لبروزها وحركتها، وعند أول احتكاك بواقع الحياة الاجتماعية تعود قوية نشطة.

و لذلك لابدّ من هذا الوسط الاجتماعي، والحياة الاجتماعية، والحضور في وسط المغريات، والمثيرات، والفتن (1)، ليستطيع الإنسان أن يتجاوز (الأنا) بصورة كاملة.

و حقيقة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي أنّ حركة الإنسان إلى الله تعالى حركة شاقة، عسيرة، وصعبة، ولا يستطيع الإنسان أن يطوي هذا الطريق


1- وليس معنى ذلك أن يعرض الإنسان نفسه لمزالق الشيطان، ويحضر مواقع الفتنة، وبين هذا وذاك فرق لا يخفى على اللبيب.

ص: 30

وحده، فإذا حشر نفسه في الجماعة المؤمنة، وانصهر في وسط الأُمّة، هان عليه السير، واستطاع أن يطوي معهم هذا الطريق بكفاءة، وجدارة، ويسر.

لذلك نقول في الصلاة، ونكرّر في كلّ يوم عشر مرات: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، بصيغة الجمع، وليس بصيغة المتكلم لوحده، فإنّ الطريق إلى الله طريق صعب، وليس من شك أنّ سلوك هذا الطريق وطيّ هذه المسافة مع الجماعة المؤمنة، آمن، وأسلم، وأيسر.

و لذلك نجد أنّ الطريق إلى الله تعالى يتمّ في الإسلام عبر الحضور في الجماعة المسلمة، والانصهار فيها، وليس بمعزل عنها.

الأبعاد الثلاثة للحج:

تلك هي المراحل الثلاثة التي يرسمها الحج، بلغته الرمزية الخاصة:

1- مرحلة تجاوز الذات.

2- مرحلة الانصهار في الجماعة.

3- مرحلة الحركة إلى الله.

و هذه المراحل الثلاثة هي الأطراف الثلاثة في علاقات الإنسان، فإنّ للإنسان علاقة بالله تعالى أولًا، وعلاقة بالمجتمع ثانياً، وعلاقة بنفسه ثالثاً.

و هذه العلاقات الثلاثة منظورة جميعاً في الحج في هذه المراحل الثلاثة، ومن عجب أن تكون علاقة الإنسان بالجماعه وانصهاره فيها، هو الجسر الذي يوصل الإنسان إلى الله تعالى، وليس هو الحاجز والحجاب والعقبة، كما في التصورات الرهبانية المجافية لروح هذا الدين.

***

ص: 31

البيت الحرام

اشارة

ص:32

ص: 33

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ)(1) .

يطلق «البيت الحرام» في القرآن على الكعبة المشرفة، وتتضمن هذه الكلمة مفردتين:

(البيت) و (الحرام).

وفيما يلي سأتحدث إن شاء الله عن كل من هاتين الكلمتين، ونبدأ بالحديث عن (البيت).

1- البيت

اشارة

يكثر في القرآن استعمال (البيت) في الكعبة الشريفة، وفيما يلي نذكر طائفة من آيات كتاب الله، التي أطلقت كلمة (البيت) على (الكعبة):

(وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ)(2) .

(فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (3).

(وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً)(4) .


1- المائدة: 97
2- البقرة: 127
3- البقرة: 158
4- البقرة: 125

ص: 34

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً)(1) .

(وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)(2).

مقوّمات البيت:

ولا بد من أن نقف وقفة تأمل قصيرة عند هذه الكلمة.

إن للبيت مقومات ثلاثة:

1- فالبيت يجمع شمل الأسرة الواحدة من نسيج حضاري واحد.

2- وفي البيت يجد الإنسان (سكناً) واستقراراً لا يجده في غيره، وفي أي مكان آخر على وجه الأرض. يقول تعالى (وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) (3).

و (السكن) هو ما يطمئن إليه الإنسان، ويجد فيه استقراره النفسي، ويركن إليه.

وقد عَدَّ الله تعالى (الصلاة) و (الليل) و (الدار) الّتي يؤوي إليها الناس سكناً.

يقول تعالى: (وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (4).

فالإنسان يسكن إلى الصلاة والدعاء واللجوء إلى الله تعالى، ويجد في كلّ ذلك سكناً، تطمئن به نفسه وقلبه (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وطمأنينة القلوب، وسكون النفس من مقولة واحدة.

والليل، يسكن إليه الإنسان، ويجد فيه راحة من زحمة النهار ومتاعبه، يقول تعالى: (وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) (5).


1- آل عمران: 96
2- آل عمران: 90
3- النحل: 80
4- التوبة: 103
5- الانعام: 96

ص: 35

والدار التي يسكنها الإنسان هي الأخرى سكن وقرار له. يقول تعالى: (وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً)(1) .

3- إضافةً الى ما يتذوقه الإنسان في البيت من (السكن والاستقرار النفسي) ... يجد في البيت (الأمان) أيضاً، فإنَّ للبيت في المجتمعات البشريّة حرمة وأماناً، وقد يخترق الظالمون هذه الحرمة ويدخلون الرعب الى (البيوت)، ولكن يبقى الأصل في (البيت) الحرمة والأمان، وليس لأحد الحقُّ أن يخترق هذه الحرمة والأمان إلا بموجب القانون الذي يحمي حرمة المجتمع وأمن المجتمع؛ وحرَّم القرآن على الذين آمنوا أن يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم إلا بعد الاستيناس والسلام والإذن من أصحابها، يقول تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(2) .

(البيت) والانتماء الحضاري

يعيش الناس على وجه الأرض على حالتين حالة الانتماء الحضاري وحالة اللاانتماء، والحالة الأولى هي: حالة الحياة البيتية، والحالة الثانية هي: حالة الغربة الحضارية واللاانتماء.

وحالة (البيت) هي حالة الانتماء والتآلف والتعاون، وفي هذا النمط من الحياة يُحِسّ الإنسان بالعلاقة العضوية بالمجتمع الذي يحتضنه ويؤويه، ويتذوق التآلف والتعارف في الحياة الاجتماعية، وهذه الحالة هي حالة الإنسان الذي ينتمي


1- النحل: 80
2- النور: 27، 28

ص: 36

الى البيت.

والحالة الأخرى هي حالة اللاانتماء، وهي حالة لا حضارية يفقد فيها الإنسان الإحساس بالعلاقة العضويّة بالمجتمع الذي يعيش فيه، ويفقد فيها الإحساس بالتآلف والتعارف، ويسيطر عليه شعور غريب ب- (الغربة)، وهذه الحالة هي حالة الإنسان الذي لا ينتمي الى بيت.

ومن يقرأ رواية (الغريب) (1)... يشعر بصورة دقيقة بعمق الشعور بالغربة في نفس الإنسان المعاصر، وهذه هي حالة عدم الانتماء الى بيت يجمع شمل المجتمع.

إذن في حياة الناس حالتان: حالة البيت، وحالة اللابيت.

وحالة البيت ليست حالة واحدة، بل حالتين: بيت التوحيد وبيت الشرك، ونتحدث الآن عن هذين البيتين في حياة الناس.

بيت التوحيد وبيت الشرك:

يعبّر كل من هذين البيتين عن حالة الإنتماء الحضارية في حياة الإنسان، غير أن البيت الأوّل انتماء الى أسرة التوحيد، والبيت الثاني انتماء الى أسرة الشرك، وكل منهما انتماء، ولا يصح أن نتصور أن حالة الشرك والكفر لا تعبر عن الإنتماء غير أن الانتماء انتماءان.

وكل من هذين الإنتماءين يتألّف من نسيج حضاري تحكمه شبكة من العلاقات العضوية. والقرآن يقرر هذه الحقيقة في كل من هذين البيتين، يقول تعالى عن العلاقة العضوية داخل البيت الأول: (وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (2) الذين آووا ونصروا في التاريخ، وعلى وجه الأرض أسرة واحدة، أينما كانوا من الأرض، ومن التاريخ ... بعضهم أولياء بعض، ولا تضعف وشيجة


1- 1 قصة وجودية معروفة لالبيركامو مترجمة إلى العربية تعبر عن حالة الغربة الحضارية للإنسان.
2- المائدة: 51

ص: 37

الولاء بالفواصل المكانية والزمانية الشاسعة ولا باختلاف اللغات والألوان والدماء.

ولوشيجة (الولاء) أصولها وأحكامها ومقوماتها. وهذه الوشيجة هي التي تحفظ أُسرة التوحيد من التفكّك والتفرق والتمزق، والعقم والتعطيل في التاريخ.

إلّا أنّ هذه العلاقة العضوية لا تخصّ أسرة التوحيد ... فإن الذين كفروا، في أنحاء الأرض وفي التاريخ أيضاً، أسرة واحدة، على وجه الأرض، في مواجهة أسرة التوحيد، رغم كل الخلاف الثقافي والسياسي والعسكري فيما بينهم، داخل هذه الأُسرة.

يقول تعالى في الوشيجة الحضارية داخل الأسرة الكافرة: (وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)، ويقول تعالى عن حالة النفاق والمنافقين: (الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) ( (1))، ولا أعرف تعبيراً أدق في تصوير حالة الانتماء والعلاقة العضوية داخل هذه الأسرة من قوله تعالى: (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وقوله تعالى: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) و في داخل هذه الأسرة الكبيرة أُسرٌ صغيرة أيضاً (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) على درجات مختلفة من القوة والضعف، ولكن تبقى القاعدة الثابتة في كلّ الحالات، وفي المجتمعات الصغيرة والمجتمع الكبير أنها بعضها من بعض.

وليس معنى ذلك أن الأسرة الكافرة تابعة لمحور ولاء واحد، فهي قد تكون ولاءات متعددة، وصدق الله تعالى في التعبير عن هذه الحقيقة حيث يقول: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (2) فالذين كفروا لهم ولاءات عديدة، إلا أنهم لهم براءة واحدة، لا يختلفون فيها وهي البراءة من الذين آمنوا.


1- 2 التوبة: 67
2- البقرة: 257

ص: 38

يقول تعالى: (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (1) ويقول تعالى: (وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) (2) وهذه البراءة الواحدة تجعلهم صفاً واحداً كتلة واحدة، كلما اقتضى الأمر، في مواجهة الأمّة المسلمة، وتكسبهم بذلك حالة الولاء الواحدة، فتكون عندئذ كما قال ربنا: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) و (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

فالذين كفروا، إذن رغم كلّ الصراع والخلاف المنتشر بينهم أمة واحدة، وأسرة واحدة، وكتلة واحدة في مواجهة الذين آمنوا، ولنقرأ بيان هذه الحقيقة الخطيرة من كتاب الله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) . وفي سورة الأنفال: (وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).(3)

إذن هناك في التاريخ بيتان، وعلى وجه الأرض (بيتان) و (أسرتان) و (جبهتان) و (انتماءان) انتماء الى الله ورسوله وإلى الذين آمنوا، وهذا هو الانتماء الأول، وله عمق وجذور ضاربة في التاريخ منذ إدريس، ونوح، وإبراهيم

والامتداد الآخر انتماء إلى الذين كفروا، وهذا هو الانتماء الثاني.

وكل منهما (بيت)، تحكمه علاقات البيت الواحد، من حيث الولاء والبراءة.

أيّ البيتين أَقدم؟

إذا عرفنا أنّ هناك بيتين في التاريخ، وعلى وجه الأرض، فإنَّ من الطبيعي أن نتساءل أيّ البيتين أسبق وأَقدم في التاريخ ... بيت التوحيد أم بيت الشرك؟


1- البقرة: 105
2- البقرة: 217
3- المائدة: 51

ص: 39

الذي يقرره القرآن: أن الناس كل الناس كانوا على هدى التوحيد بالفطرة، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله تعالى فيهم النبيين والمرسلين مبشرين ومنذرين.

يقول تعالى: (وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)(1) .

ويقول تعالى: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (2).

إذن البيت الأول في التاريخ هو (بيت التوحيد)، ولما اختلف الناس وانشقّوا عن التوحيد أقاموا لأنفسهم بيتاً بديلًا، بدلًا عن البيت الذي أقامه الله تعالى لهم.

فكان هذا البيت الثاني متأخّراً عن البيت الأول، وانشقاقاً على البيت الأول، وخروجاً على أصوله وقيمه وأحكامه.

الصراع بين البيتين:

ومنذ أن انشقَّ البيت الثاني عن البيت الأول استقر بينهما الصراع الى اليوم، ولا يزال الصراع قائماً بينهما، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.

والصراع بين هذين البيتين من حتميات التاريخ، ورغم كل شراسَة الشرك في ضرب قلاع التوحيد، فإن بيت التوحيد بيت مقاوم وصعب، وبيت الشرك بيت موهون وضعيف كبيت العنكبوت، يتخذه العنكبوت ليكون لها وقاية وأمناً، فتمزقه الرياح وتبدده (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).(3)


1- يونس: 19
2- البقرة: 213
3- العنكبوت: 40

ص: 40

الكعبة بيت الموحدين

وقرّر الله تعالى أن تكون الكعبة المشرفة بيتاً للموحدين، يجمع شملهم من نقاط شتى من الأرض، ويوحدّ جهة حركتهم على امتداد التأريخ، ويؤلّف بين قلوبهم، ويوحّدها، برغم الفواصل المكانية والزمانية الكثيرة، ويؤلّف بين قلوبهم، ويُعرّف بينهم.

والمعمار الأول لهذا البيت هو إبراهيم (ع) وابنه إسماعيل:

و قداستولى المشركون على البيت ردحاً من الزمان، ولكن هذا البيت للمتقين حصراً بقرار من الله تعالى صاحب البيت.

وهذا فارق جوهري بين هذا البيت، وبيوت الشرك، فإن أولياء هذا البيت المتقون حصراً، حتى إذا تسلط عليه الجائرون والمشركون.

وأما غير هذا البيت من بيوت الشرك والكفر فلا يتولاه إلا الجبابرة والطغاة، والصادون عن سبيل الله.

و روّاد هذا البيت، بعكس روّاد البيوت الأخرى، هم الطائفون والعاكفون والركع السجود.

وهذا هو الفارق الجوهري الآخر بين هذا البيت والبيوت التي يقيمها الكافرون

ص: 41

لأنفسهم في الأرض.

فإن هذا البيت رواده الطائفون، العاكفون، الركع السجود، المسبحون، الذاكرون، بينما يرتاد البيوت التي يقيمها الكافرون أهل البطر وأهل الرياء من الناس، ومن لا يطلب في عمله وحركته وجه الله.

الكعبة البيت الأول على وجه الأرض

والكعبة، بصراحة القرآن، أول بيت وضع للناس، يقول تعالى:

كان لابد لأسرة التوحيد في التاريخ، وعلى وجه الأرض، من موضع يجمع شملهم، ويوحّد جهة حركتهم، ويقرّب، ويعرّف، ويؤلف بينهم، فأَمَر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل ببناء الكعبة المشرفة؛ ليتخذه الناس (أهل التوحيد) بيتاً لهم، وليكون لهم سكناً، وأَمناً، ومحلا يجمع شملهم.

وهو أول بيت للناس، وبعد ذلك عمّر أولياء الله بيوتاً كثيرة للناس على وجه الأرض.

وأما البيوت التي أقامها المشركون للبطر والرياء فلم تكن لخدمة الناس وتوجيههم إلى الله، وإنما كانت لتضليل الناس، واستعبادهم، وصدّهم عن سبيل الله، ولم تكن بأمر الله، وإنما كانت بإغراء وإغواء من الشيطان، لدعوة الناس إلى الانشقاق على التمرد على حدود الله، وليَأوى إليه المنشقون على حدود الله وأحكامه.

ص: 42

الكعبة (بيت الله) و (بيت الناس)

الكعبة، بصراحة القرآن (بيت الله) وفي نفس الوقت (بيت الناس) أيضاً.

وسوف نقدم إن شاء الله توضيحاً لهاتين النسبتين للكعبة الشريفة فيما يلي:

بيت الله

الكعبة (بيت الله) بصريح القرآن؛ نسبه الله تعالى إلى نفسه، ونسبه إليه تعالى عبده وخليله إبراهيم، وأنبياؤه (عليهم السلام).

يقول تعالى لعبديه وخليليه إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام): (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ).(1) وينسب إبراهيم (ع) البيت إلى الله، فيقول كما يحدثنا القرآن: (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(2) والله تعالى بَوَّأ لإبراهيم (ع) مكان البيت من الأرض يقول تعالى:

والله تعالى أمر إبراهيم (ع) أن يطهر بيته ويُعِدّه للطائفين والعاكفين والقائمين والركع السجود من عباده (وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ).

وأمر الله تعالى عبده وخليله إبراهيم أن يعلن في الناس حجّ هذا البيت، ويدعو الناس إليه.

والله تعالى جذب أفئدة الناس من كلّ فجّ عميق إلى هذا البيت، وإلى


1- الحج: 26
2- إبراهيم: 37

ص: 43

الاستجابه لأذان إبراهيم (ع) (يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). (1)

منزلة الكعبة عند الله:

وهذا البيت أحبّ بقاع الأرض إلى الله تعالى.

روى الصدوق في الفقيه، عن سعيد بن الأعرج، عن أبي عبد الله (ع)، قال: أحبّ الأرض إلى الله تعالى مكة، وما تربة أحبّ إلى الله عز وجل من تربتها، ولا حجر أحبّ إلى الله من حجرها، ولا شجر أحبّ إلى الله من شجرها، ولا جبال أحبّ إلى الله من جبالها. (2)وروى الكليني عن ابن أبي عمير عن زرارة، قال: كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر (ع)، وهو مستقبل الكعبة، فقال: (أما إنّ النظر اليها عبادة).

فجاءه رجل، من بجيلة يقال له: عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر (ع): إن كعب الأحبار كان يقول: إنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة.

فقال أبو جعفر (ع): فما تقول فيما قال كعب الأحبار؟ فقال: صدق. القول ما قال كعب.

فقال أبو جعفر (ع): كذبت وكذب كعب الأحبار معك، وغضب.

قال زرارة: ما رايته إستقبل أحداً بقول: كذبت، غيره.

قال (ع): ما خلق الله عز وجل بقعة في الأرض أحبّ إليه منها؛ ثم أومأ بيده نحو الكعبة، ولا أكرم على الله عز وجل منها، لها حرّم الله عز وجل الأشهر الحرم في كتابه، يوم خلق السماوات والأرض ثلاثة متوالية للحجّ: شوال، وذو القعدة،


1- الحج: 27
2- من لا يحضره الفقيه 2/ 162

ص: 44

وذو الحجة، وشهر مفرد للعمرة، رجب.(1) وقد تظافرت الروايات: إنّ النظر إلى الكعبة عبادة.

روى حريز عن أبي عبد الله (الصادق) (ع) قال:

النظر إلى الكعبة عبادة، والنظر إلى الوالدين عبادة، والنظر إلى الإمام عبادة. وقال: مَن نظر إلى الكعبة كتبت له حسنة، ومحيت عنه عشر سيئات. (2) وعن سيف التمار عن أبي عبد الله (ع) قال: من نظر إلى الكعبة لم يزل تكتب له حسنة، وتمحى عنه سيئة حتى ينصرف ببصره عنها. (3)وعن أبي عبد الله الصادق (ع)، قال: من أيسر ما يعطي من ينظر إلى الكعبة أن يعطيه الله بكل نظرة حسنة، وتمحى عنه سيئة وترفع له درجة.(4)

بيت الناس

والكعبة بيت الناس، جعله الله للناس بيتاً، يَأوون ويثوبون إليه، ويتآلفون ويتعارفون في رحابه؛ يقول تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةّ مُبارَكاً).(5) فما هي علاقة هذا البيت بالناس، بعد علاقته بالله تعالى؟

من خلال كتاب الله نتعرف على وجوه ثلاثة لهذه العلاقة.

فهو مسجد للناس أولًا، ومثابة للناس ثانياً، وقوام معايش الناس، ومصالحهم في الدنيا، ومنازلهم ومواقعهم من الله في الآخرة ثالثاً.

وإليكم إيضاحاً لهذه الأنحاء الثلاثة من علاقة البيت بالناس من خلال


1- الكافي، الفروع 231: 1، ووسائل الشيعه 363: 9
2- وسائل الشيعة 364: 9
3- المصدر نفسه.
4- المحاسن للبرقي 69
5- آل عمران: 96

ص: 45

كتاب الله.

1- الكعبة مسجد للناس، وفي رحابها يجتمع الطائفون، العاكفون، القائمون، الراكعون، الساجدون، المسبحون، الذاكرون الله كثيراً؛ ليذكروا الله كثيراً، ويسبحوه، ويطوفوا له، ويعكفوا في بيته.

يقول تعالى:

ويقول تعالى:

ويُسْكن إبراهيم أبو الأنبياء (ع) ذريته عند البيت الحرام؛ ليقيموا فيه لله الصلاة.

إذن، فقد وضع الله تعالى هذا البيت للناس؛ ليتخذوه مسجداً، ومصلى ومطافاً، ومقاماً بين يديه تعالى ... ومن هذا البيت ينطلق الناس الى الله، وفي هذا البيت أَمر الله تعالى عباده أن يعبدوه، ويوحّدوه، ويسبحوه ويذكروه كثيراً.

2- والكعبة مثابة للناس يثوبون إليها، فيجتمع بعضهم ببعض، والخلف بالسلف، والإنسان بنفسه، يقول تعالى: (وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ) ومن طبيعة الحياة الدنيا أنها تشتت، وتُقَطِّع وتُغيّب.

تشتت الناس بعضهم عن بعض.

وتُقَطّع الناس عن أصولهم.

ص: 46

وتُغيب الإنسان عن نفسه.

وهذا التشتيت والتقطيع والتغييب، يَضُرُّ الإنسان، ويفسده ويغرّبه (يشعره بالغربَة)، ويحجبه عن أصوله وشمله، فلابد للإنسان من محل يثوب إليه، يجمع شملهم بعضهم ببعض، ويصل الإنسان بأصوله، ويعيد الإنسان الى نفسه.

والكعبة هي هذه المثابة التي جعلها الله تعالى للناس، فهي تجمع الناس كل سنة مرة منذ أن أذّن إبراهيم (ع) في الناس بالحج إلى اليوم (وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

ويجمع الناس في كل يوم خمس مرات من شتى مناطق الأرض، يستقبلونها في صلواتهم، يقول تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (1) فيجد المسلمون الموحّدون، الذين أسلموا وجوههم لله على ملّة إبراهيم في الكعبة مثابة لهم، تجمعهم كلّما تشتتوا، وتوحّد حركتهم كلما تفرقت بهم المذاهب والمسالك في الحياة الدنيا.

وتصل الخلف بالسلف، كلما قطعت الحياة الدنيا هذه الأواصر التي تربط الأبناء بالآباء، فيعيدهم البيت الحرام إلى آبائهم وأصولهم إبراهيم وإسماعيل، ويأمرهم الله تعالى أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

فيذكّرهم (المقام) بإبراهيم، و (الحجر وزمزم) بإسماعيل و (الصفا والمروة) بهاجر، ويذكرهم البيت الحرام بالأنبياء الذين طافوا بهذا البيت، وحجوا إليه (عليهم السلام).

وإذا عاد الناس الذين أسلموا لله حنفاء، بعضهم إلى بعض، وعادوا إلى أصولهم وأسلافهم ... عادوا إلى أنفسهم، ولم يضيعوا في زحمة الحياة.

فالكعبة تشعر هذه الأمة بعرضها العريض على وجه الأرض، وعمقها


1- البقرة: 144

ص: 47

في التأريخ.

إن المسلم الذي يحضر ضمن هذا الحشد الهائل من حجاج بيت الله الحرام ... يلمس في الحج حجمه وعمقه ونفسه، فيلمس حجمه الحقيقي في الحشد الهائل الذي يقصد الحج من مختلف مناطق الأرض، ويلمس في الحج عمقه الحقيقي، عندما تذكره الكعبة وأجواؤها بجذوره التأريخيه الضاربة في أعماق التاريخ، ويشعره الحج بأنه فرع من الشجرة الطيبة التي تضرب أصولها في أعماق الأرض، وفروعها في السماء، وأعظم من هذا كله أنّه يجد نفسه عند الكعبة عندما يتعرف على أصوله وأسرته وبيته.

وهذا هو البعد الأول من هذه المعرفة وهو بعد «الولاء».

والبعد الثاني هو بعد «البراءة»، فإن البيت الحرام كما يصل الإنسان بالله تعالى، وبأصوله وجذوره الممتدة في التأريخ، وبأسرة التوحيد الكبيرة على وجه الأرض، كذلك يقطعه عن المشركين ويفصل بينه وبين أسرة الكفر والشرك على وجه الأرض وفي التأريخ.

ففي رحاب الكعبة إذن يثوب الناس إلى أصولهم، وأسرتهم، وبيتهم، ويتميزون، وينفصلون عن المشركين والكفار.

يقول تعالى: (وَ أَذانٌ مِنَ اللهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ). (1) 3- والكعبة تؤمّن معيشة الناس، وتقوّم معايشهم في دنياهم، كما تُقوّم آخرتهم.

وهذه الحقيقة يذكرها الله تعالى لعبده وخليله إبراهيم (ع) عندما أمره أن يؤذِّن في الناس بالحج.


1- التوبة: 3

ص: 48

(وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ). (1) كما أنّ هذه القضية وردت في دعاء إبراهيم (ع)، عندما أودع أهله وذريته بوادٍ غير ذي زرع عند البيت المحرم ليقيموا الصلاة.

فقد دعا الله تعالى أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ويرزقهم من الثمرات.

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). (2) وقد استجاب الله دعاء عبده وخليله إبراهيم (ع).

الكعبة قيام للناس

فالكعبة إذن قضية كُبْرى وأساسية في حياة الناس، لا يستغني عنها الناس في دنياهم، ولا في آخرتهم، ولا يستغنون عنها في سلم أو في حرب، ولا في ولاء من يجب ولاؤه، ولا في البراءة عمن تجب البراءة عنه.

فهي إذن قوام حياة الناس، يقول تعالى: (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ).(3) و «القيام» هو ما يُقوّم حياة الناس.

وقد ذكر الله تعالى في كتابه المال، وقال عنه: إنه قيام للناس، قال تعالى: (وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً).(4)


1- الحج: 27- 28
2- إبراهيم: 37
3- المائدة: 97
4- النساء: 5

ص: 49

والكعبة، قيام للناس، يُقَوِّم حياة الناس ومعايشهم في الدنيا، كما تُقوّم آخرتهم، فيَستقيم بها دينهم ودنياهم وآخرتهم.

وقد روي: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة». (1)فإن الكعبة تُقوّم دين الناس ودنياهم، وتدفع عنهم العذاب الذي يستحقه الناس بأعمالهم.

عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: لو ترك الناس الحجّ أنزل عليهم العذاب. (2) وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): إنّ ناساً من هؤلاء القصاص يقولون: إذا حج الرجل حجة ثم تصدّق ووصل كان خيراً له، فقال: كذبوا، لو فعل هذا الناس لعُطِّل هذا البيت، إن الله عز وجل جعل هذا البيت قياماً للناس. (3)

الكعبة مباركة

وجعل الله الكعبة مباركة في الحياة، تستنزل رحمة الله تعالى وبركاته على الناس، يقول تعالى:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ). (4) فهي من منازل رحمة الله على الناس.

روى معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (ع) قال: إنّ الله تبارك وتعالى جعل حول الكعبة عشرين ومائة رحمة، منها ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين. (5)


1- وسائل الشيعة 14: 8
2- المصدر نفسه 13: 8
3- المصدر نفسه 14: 8
4- آل عمران: 196
5- وسائل الشيعة 363: 9

ص: 50

وعن الحسن بن راشد عن أبي عبد الله (ع)، قال: «قال أمير المؤمنين (ع): إذا خرجتم حجاجاً الى بيت الله، فأكثروا النظر الى بيت الله، فإن لله مائة وعشرين رحمة عند بيته الحرام: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين»(1) .

هذا إجمال من رسالة الكعبة ودورها في حياة الناس، فهي تشدّهم بالله تعالى وبأوليائه، وتشدّهم بأسرة التوحيد على وجه الأرض، وفي التاريخ، وتجمع شملهم، وتؤلف بين قلوبهم، وتوحد حركتهم، وتعرّف بينهم، وتؤلف بين قلوبهم، وتعيدهم إلى أنفسهم، وتُقوّم لهم معايشهم في دنياهم، ومنازلهم من الله في آخرتهم.

2- الحرام

اشارة

الحرام والحرمة بمعنى الحظر والمنع.

يقول تعالى:

(وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ).(2) (قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ). (3) وتأتي كلمة الُمحرّم بنفس المعنى، يقول تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ). (4)كما أنّ «الحَرْم» وهو المنطقة المحيطة بالبيت الحرام منطقة حظر ومنع، ويطلق عليه الحرم بهذا الاعتبار.


1- المصدر نفسه 365: 9
2- النحل: 116
3- يونس: 59
4- الأنعام: 145

ص: 51

يقول تعالى:

(أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ) (1).

والشهر الحرام هو كذلك شهر حظر فيه الله تعالى القتال.

يقول تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ). (2) يقول الراغب في (المفردات):

و «الحَرَم» سمي بذلك لتحريم الله تعالى فيه كثيراً مما ليس بمُحرم في غيره من المواضع، وكذلك «الشهر الحرام». (3) والعلاقة بين (ما يحُرّمه الله تعالى) وبين (من يُحَرَّم عليه) و (ما يُحَرَّم فيه) علاقة عكسية.

وتوضيح ذلك:

إنّ ما يحرّمه الله تعالى من قول وفعل فلا بد من أن يكون ذلك لسبب فيه من فساد أو دناءة كالشرك والفحشاء، وقول الزور والباطل والعدوان، أو أن الله تعالى يكرهه لعباده، ولو لظرف خاص من مكان أو زمان.

وأما من يحرم الحرام عليه، ويضع الله تعالى عليه الحرمه والنهي فإن ذلك إشعار بقيمته ومنزلته عند الله، ومهما كثرت عليه المحرمات عند الله كان ذلك دليلًا على منزلته وقيمته.

فليس على الحيوان تكليف من حرام وحلال، وليس على المجنون والطفل تكليف، فالتكليف بالحرمة إشعار بقيمة المكلف عند الله، كما أنّ كثرة الحرمات في مكان أو زمان إشعار بقيمة ذلك المكان والزمان عند الله.

فإذا كان يحرم في المسجد ما لا يحرم في غيره، كالإجناب ودخول الجنب مثلًا،


1- القصص: 57
2- البقرة: 217
3- مفردات الراغب حرف الحاء: 115

ص: 52

وتتأكد فيه حرمة اللهو واللغو الباطلين فإنّ ذلك إشعار بأن قيمة المسجد أعظم عند الله من قيمة غيره من الأماكن.

وإذا كان يحرم في الأشهر الحرم ما لا يحرم في غيرها، أو تتأكد فيها الحرمة، دون غيرها من الأشهر ... فذلك لأهمية هذه الأشهر ومنزلتها عند الله تعالى.

وبنفس الميزان نقول: إنّ اعتبار الكعبة الشريفة والمسجد الحرام، ومنطقة الحرم منطقة حظر ومنع، يكثر فيها الحظر والمنع من عند الله على الناس، ويحظر الله تعالى فيها على الناس ما لا يحظر في غيره ... لأهمية هذه البقعة المباركة والمنطقة من الأرض.

ولذلك وصف الله تعالى الكعبة بالحرام، فقال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ووصف الله المنطقة بالحرم فقال تعالى: (أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) ووصف الله تعالى المسجد بالحرام فقال تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(1) .

ومن هذا التفصيل نريد أن نخلص إلى النتيجة التالية: كل ما يحرمه الله تعالى على عباده فهو سبحانه وتعالى راغب عنه كاره له، وإذا حرّم الله تعالى على عباده المحرمات فهو إشعار بحبه لهم، ورغبته فيهم، ومهما أكثر الله تعالى المحرمات على عباده كان ذلك إشعاراً لحبه لهم، ورغبته فيهم، وتنزيهه لهم عنها، وكذلك المكان والزمان.

فمهما أكثر الله تعالى من المنع والحظر والحرمة على مكان أو زمان ك- (الحرم) و (المسجد الحرام) و (الأشهر الحرم) و (شهر رمضان) كان ذلك إشعاراً بقيمة متميزة لذلك المكان عند الله تعالى.

والآن، بعد هذا التوضيح ل- (الحرام) نتحدث عن المحرمات، التي حرمها الله تعالى على الناس في (البيت الحرام) وحُرُمات هذا البيت.


1- البقرة: 144

ص: 53

حُرُمات البيت الحرام

1- البدء بالقتال: حرم الله تعالى على المسلمين أن يبدأوا الكفار بالقتال عند المسجد الحرام، إلّا أن يبدأ الكفار قتال المسلمين عنده، فيجوز عندئذ قتالهم وصدّهم عن العدوان، يقول تعالى:

(وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1).

فينهى الله تعالى المسلمين من قتال الكفار عند المسجد الحرام، إلا أن يكون الكفّار هم البادِئون بالقتال.

ثم يقول تعالى عن القتال في الحرم عند المسجد الحرام، وفي الأشهر الحرم (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (2).

فأجاز الله تعالى للمسلمين أن يقتصّوا من المشركين إذا قاتلوهم في الأشهر الحرم، أو عند المسجد الحرام، وأجاز للمسلمين أن يقاتلوهم كما يقاتلهم المشركون فيه ويعاملوهم بالمثل.

والحرمات التي تشير إليها الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ) هي حرمة «الشهر الحرام» وحرمة «المسجد الحرام» وحرمة «الحرم».

فإذا تجاوز المشركون على هذه الحرمات، وقاتلوا المسلمين فيها جاز للمسلمين معاملتهم بالمثل.

عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، قال: قال رسول الله (ص) يوم فتح


1- البقرة: 191، 192
2- البقرة: 194

ص: 54

مكة: «إنّ الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحِلَّ لأحد قبلي، ولا يَحلَّ لأحد بعدي، ولم تحل لي إلّا ساعة من نهار» (1).

وعن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث فتح مكة إنّ النبي (ص) قال: «ألا إنّ مكة محرمة بتحريم الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار إلى أن تقوم الساعة، لا يختلى خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» (2).

2- حرمة تلويث الكعبة بالشرك، وحرمة الإبقاء على مظاهر الشرك وآثاره حول الكعبة، ووجوب تطهيرها منه.

والشرك حرام على كل حال وفي أي مكان، ويجب تطهير الأرض منه في كل مكان، ولكن هذه الحرمة، وهذا الوجوب في الحرم أعظم وأبلغ وآكد.

فإنّ الشرك بالله العظيم رجس يلوّث كل شي ء يصيبه، ويفقده دوره ويسلبه خصائصه ويعطّله.

والإنسان خليفة الله، وليس في الكون كله صفة أشرف من هذه الصفة، وليس لشي ء دور أعظم من هذا الدور (خلافة الله)، ومع ذلك فإذا أشرك الإنسان فَقَدَ كُلَّ خصائصه وكرامته، وسقط مرة واحدة، كما لو أنه خَرَّ من السماء دفعة واحدة (وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ). (3) ويُحوِّل الشرك الإنسان من محور خلافة الله إلى محور الصدود والإعراض عن الله، وكذلك الكعبة المشرفة إذا أصابتها لوثة الشرك أفقدتها خصائصها وبركاتها،


1- وسائل الشيعة 68: 9
2- المصدر نفسه 69: 9
3- الحج، 31

ص: 55

ودورها الكبير والمبارك في حياة الناس.

ولكي يتم تفعيل دور الكعبة في حياة الناس، وتعدّ الكعبة الشريفة، لتكون منطلقاً لعروج الإنسان إلى الله تعالى، لابد من تطهير الكعبة من الشرك، يقول تعالى: (وَ إِذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ) (1).

فلا يعرج الناس إلى الله من الطواف حول البيت والقيام والركوع والسجود بين يدي الله في رحاب البيت الحرام، إن لم يطهر الناس الكعبة من رجس الشرك.

وقد عهد الله تعالى بذلك إلى إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام).

يقول تعالى: (وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ)(2) (3) .

3- حرمة إدخال المشركين إلى المسجد الحرام، ووجوب إقصائهم عنه.

يقول تعالى:

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) (4).

4- تحريم قطع الحشيش والشجر من الحرم للمُحل والمحرم.

هكذا عنون صاحب الوسائل هذا العنوان.

وروي عن حريز عن أبي عبد الله الصادق (ع) بسند معتبر قال: «كل شي ء ينبت في الحرم فهو حرام على الناس أجمعين» (5).


1- البقرة: 125
2- تفسير التطهير في هذه الآية المباركة بتنظيف البيت من القمامة والنجاسات المادية لا يناسب الاهتمام البليغ الذي يعطيه الله تعالى لهذا الأمر، فيعهد الى إبراهيم واسماعيل (عليهما السلام)، والله اعلم.
3- البقرة: 125
4- التوبة: 27
5- وسائل الشيعة 172: 9

ص: 56

5- يحرم الصيد في الحرم وتنفيره مطلقاً للمحرم والمحل.

وروى الكليني عن حريز عن أبي عبد الله الصادق (ع) بسند صحيح، قال: «قال رسول الله: ألا إنّ الله عز وجل قد حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد»(1) .

6- يحرم في الحرم كل ذنب، وتعظم حرمته عند الله حتى لو كان مثل شتم الخادم وضربه، وليس شأن الحرم شأن غيره من الأماكن، فإنّ كل ذنب حرام في أيّ مكان، وفي أيّ زمان، ولكن هذه الحرمة في الحرم أعظم وأبلغ وآكد.

وقد كان بعض الفقهاء والصالحين يتحرجون من الإقامة في جوار الحرم خشية أن يصدر منهم ذنب، فيعاقبهم الله تعالى عليه بالعذاب الأليم.

يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(2) .

يذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد ...): أن الذي يريد في البيت إلحاداً بظلم فالله تعالى يذيقه العذاب الأليم.

والإلحاد هو العدول عن القصد والاعتدال.

وروى الطبرسي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وابن زيد أنّ الإلحاد هو استحلال الحرام وركوب الإثم(3) .

وقد صحّت النصوص المعتبرة أنّ كلّ إثم إلحاد.

فقد جاء بسند معتبر عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله


1- المصدر نفسه 175: 9
2- الحج: 25
3- مجمع البيان للطبرسي 81: 4

ص: 57

عزّوجل: (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) فقال: «كل الظلم فيه إلحاد حتى لو ضربت خادمك ظلماً خشيت أن يكون إلحاداً»، فلذلك كان الفقهاء يكرهون سكنى مكة (1).

وروى أبو الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قوله عزّ وجلّ (وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فقال: «كل ظلم يظلمه الرجل على نفسه بمكة من سرقة، أو ظلم أحد، أو شي ء من الظلم، فإني أراه إلحاداً، ولذلك كان يتّقى أن يسكن الحرم»(2) .

وعن رسول الله (ص): «جعل الله الحسنات في الحرم مضاعفة والسيئات مضاعفة» (3).

7- يحرم ملاحقة المجرم الذي أقدم من خارج الحرم على جريمة تستوجب قصاصاً أو حدّاً أو تعزيراً ففر الى الحرم، احتراماً للحرم، وأمنه، ولكن يضيّق عليه، ويمنع من الشراء من الأسواق حتى يضطر للخروج من الحرم.

وقد استدل الفقهاء على ذلك بقوله تعالى:

(وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (4)(5) .

روى ثقة الإسلام الكليني بسند معتبر عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبدالله (الصادق) (ع) عن رجل قتل رجلًا في الحل، ثم دخل الحرم، فقال: لايقتل، ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يباع، حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحدّ قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال: يقام عليه الحدّ في الحرم صاغراً؛ لأنه


1- وسائل الشيعة 341: 9
2- المصدر نفسه 341: 9
3- المصدر نفسه 336: 9
4- آل عمران: 97
5- راجع «آيات الأحكام للجزائري» 7: 2

ص: 58

لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله عز وجل: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)(1) .

وروى أيضاً بسند معتبر عن الحلبي، عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن قول الله عزّوجل: (وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً). قال: «إذا أحدث العبد في غير الحرم جناية، ثم فَرَّ إلى الحرم لم يسع لأحد أن يأخذه في الحرم، ولكن يمنع من السوق، ولا يبايع ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يتكلم، فإنه إذا فعل ذلك يوشك أن يخرج فيؤخذ، وإذا جنى في الحرم جناية أقيم عليه الحد في الحرم، لأنه لم يرع للحرم حرمة» (2).

عن عبد الله بن سنان أنه سأل أبا عبد الله (الصادق) (ع) عن قول الله عزوجل: (وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال: «من دخل الحرم مستجيراً به كان آمناً من سخط الله، ومن دخله من الوحش والطير كان آمناً من أن يهاج أو يؤذى، حتى يخرج من الحرم» (3).

والنصوص بهذا المعنى كثيرة.

فإذا كان لا يجوز ملاحقة المجرم في الحرم، ولا يجوز تنفير الصيد وتهييجه وأذاه فلا يجوز بشكل آكد وأبلغ ترويع المسلمين وإرعابهم في رحاب حرم الله، وتعظم حرمته عند الله.

روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: سألته عن قوله تعالى (وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً). قال: «يأمن فيه كل خائف مالم يكن عليه حدّ من حدودالله» (4).


1- وسائل الشيعة 337: 9
2- المصدر نفسه 337: 9، ح 2
3- المصدر نفسه 202: 9
4- المصدر نفسه 339: 9

ص: 59

والذي يقرأ اهتمام القرآن بأمْن هذا البيت لا يشك في أنّ للأمن دوراً أساسياً في رسالة البيت.

وقد كان (أمن البيت) من دعاء إبراهيم (ع).

(وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً).(1) (وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً). (2) وبين الدعاءين فرق.

في الدعاء الأول يدعو إبراهيم (ع) أن يجعل الله الكعبة بلداً أمناً، ويبدو أنّ هذا الدعاء كان قبل أن يحل الناس بجوار الكعبة فيكون بلداً، فدعا الله تعالى أن يجعل البيت بلداً آمناً.

وفي الدعاء الثاني يدعو الله تعالى أن يجعل هذا البلد آمناً، ويبدو أن الدعاء كان بعد أن حلّ الناس بجوار البيت.

ومن اهتمام القرآن بأمن البيت: القَسَمُ بالبلد الأمين، يقول تعالى: (وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ* وَ طُورِ سِينِينَ* وَ هذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ)(3) .

ويمنّ الله تعالى على المؤمنين: أن جعل لهم الحرم آمناً، تجبى إليه الثمرات من كل حدب، ومكّنهم منه ...

(أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ) (4).

فقد مَنَّ الله تعالى عليهم إذن، في هذه الآية مرتين.

مَكَنَّهم من حرمه، بعد أن كان بيد المشركين وتحت نفوذهم وهذا هو المنّ الأول.


1- 3 البقرة: 126
2- 4 إبراهيم: 35
3- التين: 1، 2، 3
4- القصص: 57

ص: 60

وجعله آمناً في وسط دنيا صاخبة وهائجة بالحروب، ويتخطف الناس من حوله وهو المنّ الثاني.

يقول تعالى: (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (1).

8- يحرم التمكين لولاية الظالمين على البيت الحرام، الذين يصدون الناس عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، ويعطلون دور هذا البيت، ويجب تمكين المتقين من ولاية البيت الذين يُعدّون البيت ويطهّرونه للطائفين والقائمين والركّع السجود.

يقول تعالى: (وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) (2).

وقد أوعد الله تعالى الذين كفروا، والذين يصدون الناس عن سبيله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم فقال تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(3) .

فأنذر الذين يصدّون عن المسجد الحرام، الذي جعله الله تعالى للناس عامة بالعذاب الأليم.

ويندّد القرآن بأولئك الظالمين الذين يصدون الناس عن المسجد الحرام:

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (4) فَيُحرّم على الناس تمكين الظالمين من ولاية البيت الحرام، ويجب عليهم تحرير هذا البيت من نفوذ الطاغوت وسلطانه، كما يجب عليهم تمكين المتقين منه؛ وقد وصف الله تعالى هذا البيت


1- العنكبوت: 63
2- الانفال: 34
3- الحج: 25
4- الفتح: 25

ص: 61

ب- (العتيق) فقال تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (1).

وقال تعالى: (وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (2).

والعتيق من العتق، وهو التحرير. فهذا البيت حَرّره الله تعالى من قبضة الظالمين مثل أبرهة، وعتاة قريش، ولم يجعل الله لأحد عليه سلطاناً في دينه، ولم يمُلِّكه أحداً من الناس حتى يكون بيتاً للناس جميعاً.

يقول الجزائري في آيات الأحكام في معنى العتيق: إنه لا يملكه أحد من الناس.

ثم ذكر في معناه أيضاً: أنه عُتِق من الجبابرة، وحفظه منهم كأبرهة وغيره (3) .

عن أبي جعفر الباقر (ع) في جواب من سأل: لِمَ سمَّي البيت عتيقاً؟ قال: هو بيتٌ حرٌ عتيق من الناس لم يملكه أحد (4).


1- الحج: 29
2- الحج: 29
3- آيات الأحكام للجزائري 26: 2
4- وسائل الشيعه 347: 3

ص:62

ص: 63

التلبية

اشارة

ص:64

ص: 65

الحج «دعوة» و «تلبية»:

دعوة من الله- تعالى- لعباده أن يَحِلُّوا ضيوفاً عليه، عند بيته المحرّم، ويطلبوا قِراه، ويستفتحوا أبواب رحمته الواسعة. وإبراهيم (ع) خليل الرحمن، و أبوالأنبياء و رائد التوحيد، هو رسول الله- تعالى- إلى عباده، والمبلّغ عن الله في هذه الدعوة.

يقول تعالى: (وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(1) ، هذه هي الدعوة.

وأما التلبية فهي من ناحية الذين دعاهم ربّهم إلى بيته (وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) يُشهرون فيها استجابتهم لدعوة ربّهم، ويعلنون الاستجابة كلّ سنة في جموع غفيرة حاشدة في الميقات من كلّ فجٍّ عميق.

ويرفعون إلى الله تعالى هذه التلبية كلّ سنة في رحاب الميقات بالتلبيات الأربعة التي علّمناها رسول الله (ص): «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ».


1- الحج: 27

ص: 66

روى عبيد الله الحلبي عن أبي عبد الله (الصادق) (ع) قال: سألته لِمَ جُعِلَتْ التلبية؟ فقال: «إنّ الله- عزّ وجلّ- أوحى إلى إبراهيم (ع): (وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا) فنادى فأجيب من كلّ فجٍّ عميق يلبّون» (1).

وسنتحدّث- إن شاء الله- عن كلّ من «الدعوة» و «التلبية».

الدعوة:

الحجّ ضيافة الله- تعالى- لعباده، فهو عزّ شأنه استضافهم في بيته المحرّم في موسم الحج، كما أنّ الصيام ضيافة أخرى في شهر رمضان المبارك، وفي كلا الضيافتين يدعو الله- تعالى- عباده إلى أفضل مواهبه ونعمه.

والمواهب والنعم التي يدعو الله- تعالى- عباده إليها في الحج تختلف عمّا نألفه ونعرفه في حياتنا الدنيا من المواهب الإلهية والنعم، حتى عن تلك التي يهبها لعباده الصائمين في شهر رمضان.

فإنّ دعوة الحج تتضمن الدعوة إلى «التوحيد» و «التسليم» و «الإخلاص» و «الكدح في سبيل الله» و «التجرّد عن الأنا والهوى» و «الانقطاع إلى الله» و «انتزاع الغل والحقد من النفوس»، كما تتضمن الدعوة: الالتزام بقيم العبودية الخالصة لله وحده.

هذهِ هي الدعوة، والتلبية استجابة لهذه الدعوة الإلهية من العباد لدعوة الله- تعالى- لهم على لسان نبيّه إبراهيم (ع).

الدعوة والوعد بالاستجابة:

ومن جمال هذه الدعوة الإلهية- التي أشْهَرها إبراهيم خليل الرحمن بأمر من الله تعالى في عباده: (وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ


1- بحار الأنوار 184: 99؛ وعلل الشرايع: 416

ص: 67

مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)- أنّ الله تعالى وعد عبده وخليله إبراهيم عندما أمره بإشهار هذه الدعوة ... إستجابة عباده لهذه الدعوة، (يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ).

فكأنّ الدعوة من الله لعباده، وإشهار الدعوة بأمر من الله، والاستجابة للدعوة بضمان ووعد من الله تعالى لعبده وخليله إبراهيم (ع).

ومنذ أنّ وعد الله- تعالى- إبراهيم عبده وخليله بالاستجابة لهذه الدعوة يُقْدم في كلّ عام حشد غفير من الحجاج من الميقات إلى البيت الحرام ليلبّوا هذه الدعوة.

الدعوة إلى التلبية الطوعية:

وكل ما في هذا الكون يلبّي أمر الله طائعاً، منقاداً في كلّ شي ء لله تعالى، إلّا أنّ الله- تعالى- أكرم الإنسان بالدعوة إلى عبادته وطاعته طوع إرادتهم، وأكرمهم بهذه التلبية الطوعية.

وتختلف التلبية «الطوعية» عن التلبية «القهرية» أنّ الحركة منّا إلى الله حركة واعية، وبالحركة الواعية يبلغ الإنسان من الكمال والعروج إلى الله ما لا يصله بغيرها.

وهي ميزة وتكريم خصّ الله بها من اصطفى من خلقه؛ والنقطة المقابلة لهذا التكريم هي «السقوط» والهلاك إذا رفض الإنسان الاستجابة لله طوعاً، وعن إختيار؛ إنّ في كل استجابة طوعية لدعوة الله تعالى عروج إلى الله، وفي كل إعراض وصدود عن الله تعالى سقوط وهلاك.

وخصّ الله الإنسان وأكرمه بهذا الخيار «الصعب» (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا)(1) .

في ضيافة الرحمن ؛ ؛ ص68


1- الأحزاب: 72

ص: 68

الدعوة من الله والتلبية من العباد:

اشارة

وتكريم آخر للإنسان في أصل الدعوة؛ فإنّ الدعوة عادة من صاحب الحاجة، والتلبية ممن يملك هذه الحاجة، والله تعالى هو الغني، وعباده الفقراء إليه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(1) .

وشاء الله أن يُكْرم عباده بأن دعاهم إلى عبادته، وهو الغني عن عبادة عباده له، وشاء الله أن تكون التلبية من عباده الفقراء إليه.

وحقّ عليهم أن يطلبوا من الله- تعالى- أن يأذن لهم بالعبودية والعبادة، ولكن الله- تعالى- بدأهم بهذه الدعوة، وأكرمهم بالتلبية والاستجابة، وهو غاية ما يمكن أن يبلغه الكرم، وإذا كانت هذه الدعوة من الله غاية الجود والكرم من الله، فإنّ الإعراض والصدود عنها غاية اللؤم من الإنسان، وإذا كانت الاستجابة لهذه الدعوة من سعادة الإنسان، فإنّ من بؤس الإنسان وشقائه الإعراض والصدود عن الاستجابة لهذه الدعوة.

ولهذا السبب قلت: إنّ الاستجابة لدعوة الله- تعالى- عروج إلى الله، والصدود والإعراض عنها سقوط وهلاك للإنسان.

وكيف انعكس الأمر- في هذه الدعوة الإلهية- وانقلب العبد في فقره وحاجته من موقع الطالب والداعي والسائل إلى موقع «التلبية»؛ وكان الله تعالى هو صاحب الدعوة والطلب، وهو غني بذاته عن خلقه وعباده.

إنّ لهذا الانقلاب في المواقع سرّاً، وهو خصلة الكرم والجود الذاتية والأصيلة في الذات الإلهية، فهو سبحانه وتعالى يُحبُّ أن يجود على عباده، ويُحبُّ أن يكرمهم وأن يحسن إليهم، كما نحتاج نحن إلى جوده وكرمه وإحسانه.

وحبّ الجود والكرم والإحسان والعطاء صفة من صفات ذاته عزّ شأنه، وليس


1- فاطر: 15

ص: 69

على الإنسان إلّا أن يضع نفسه في مواضع جوده وكرمه وإحسانه وعطائه تبارك وتعالى، وهذه حقيقة من حقائق العلاقة بين الله تعالى وعباده، وهذه الحقيقة تفتح على الإنسان أبواباً من المعرفة.

فكما نحتاج نحن إلى رحمة الله تعالى وفضله يحبّ الله تعالى أن يجود برحمته وفضله على عباده؛ وهذه العلاقة قائمة بين كلّ غني وفقير؛ ولا تقلّ حاجة الغني إلى العطاء والكرم عن حاجة الفقير إلى الغني، في حالة سلامة الفطرة.

والله تعالى غني عن عباده، وغناه في ذاته، فلا يحتاج عبادَه وخلقه في شي ء، ولكنّه يحبّ أن يجود عليهم، ويكرمهم، ويعطيهم من فضله ورحمته، كما نحتاج نحن إلى رحمته وفضله وجوده.

وهذا هو سرّ دعوة الله لعباده بالإقبال عليه، والدخول في رحاب ضيافته، والوقوف على أبواب رحمته، في شهر ذي الحجة، في عرفات، عند بيته المحرّم، وفي شهر الصيام، فيدعو الله تعالى عباده لدعائه؛ ليستجيب لهم برحمته وفضله.

وهذه الألطاف من سنن الكرم الإلهي؛ يقول تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فتحل دعوة العبد، في هذه الآية الكريمة بين دعوة الله تعالى واستجابته.

فالله عزّ شأنه يدعو عباده لدعائه ليستجيب لهم (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، فيقع دعاء العبد بين «دعوته» تعالى له بالدعاء، و «استجابته» سبحانه لدعائه.

والله عزّ شأنه يحبّ دعاء عباده، ويشتاق إلى مناجاتهم، ويحب الاستجابة لدعائهم.

عن رسول الله (ص): «إنّ الله أحبّ شيئاً لنفسه، وأبغضه لخلقه، أبغض لخلقه المسألة، وأحبّ لنفسه أن يُسأل، وليس شي ء أحبّ إلى الله- عزّ وجلّ- من أن يُسأل فلا يستحي أحدكم من أن يسأل الله من فضله، ولو شسع نعل» (1).


1- فروع الكافي 196: 1؛ من لا يحضره الفقيه 23: 1

ص: 70

وعن أبي عبد الله الصادق (ع): «أكثروا من أن تدعو الله، فإنّ الله يحبّ من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة» (1).

وفي الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد النخعي (رحمة الله):

«وأمرتهم بدعائك، وضمنت لهم الإجابة» ودعاء العبد يقع بين تلك الدعوة وهذه الإجابة.

التلبية جوهر العبودية:

التلبية هي الاستجابة.

والاستجابة لله في مساحتين: مساحة الدعوة ومساحة الأحكام والأمر والنهي.

والله تعالى يدعو عباده، ويأمرهم. وبينهما فرق. فإنّ الدعوة هي أساس الأحكام والأوامر الإلهية.

يدعو عباده إلى ما يحييهم، ويطلب من عباده أن يستجيبوا لدعوته: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)(2) ، ويأمر عباده ويحكمهم.

والله تعالى يحكم عباده في التكوين والتشريع؛ يحكم عباده في التكوين بالقضاء والقدر، بألوان الابتلاء، والفتنة، والجوع، والمرض، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات؛ وليس للناس حيلة في ذلك كلّه، والله- تعالى- يطلب من عباده أن يستجيبوا لحكمه وأمره في قضائه وقدره، ويطمئنوا إليه، ويفوّضوا أمرهم إليه- تعالى- في كلّ ذلك، ويسلّموا أمرهم له تسليماً، (وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)، هذا في مساحة التكوين.

والله تعالى يحكم عباده في مساحة التشريع بالأمر والنهي. ويطلب منهم أن


1- وسائل الشيعة 1086: 4 ح 8616
2- الأنفال: 24

ص: 71

يستجيبوا له في أمره وحكمه ويسلّموا تسليماً (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (1).

التلبية، لدعوة الله وحكمه:

والاستجابة لدعوة الله تعالى هي الإيمان والإسلام؛ والإعراض عن دعوة الله تعالى، هو الكفر، والشرك، والريب، والشك، والنفاق.

والاستجابة لقضاء الله تعالى وقدره وأحكامه على عباده في الابتلاء، والفتنة، والفقر، والجوع، والموت، والمرض، هي التفويض، والرضا، والتسليم، والاطمئنان، والثقة بحكم الله تعالى.

وقد ورد في الدعاء: «واجعلني بقسمك راضياً قانعاً، وفي جميع الأحوال متواضعاً»، «واجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك».

وخلاف ذلك «الاعتراض» و «التذمر» و «الشكوى» من أمر الله وحكمه.

ولا ينفع الإنسان إعتراض وتذمر عن أمر الله، وحكمه، وقضائه، وقدره في مساحة التكوين، فإنّ الله- تعالى- يقهر عباده بقضائه وقدره، ولكنه يطلب من عباده أن يستجيبوا لقضائه وقدره، ويسلّموا أمرهم إليه تسليماً، ويفوّضوا إليه أُمورهم تفويضاً، ويطمئنّوا إلى قضائه وقدره، دون اعتراض وتذمر.

والاستجابة لأمر الله وحكمه في التشريع هي الطاعة والانقياد عن طوع وإرادة.

وخلاف ذلك الذنب، والمعصية، والفسوق.

وفي مساحة القضاء والقدر هي التسليم و التفويض؛ وخلاف ذلك هو الجزع من أحكام الله وعدم الرضا به.


1- النساء: 65

ص: 72

العقل مبدأ التلبية والاستجابة:

والاستجابة لله بكلّ أقسامها هي جوهر العبودية لله تعالى.

و قيمة الإنسان في الاستجابة لله تعالى.

و وزن الإنسان ومقامه عند الله بمقدار عبوديته وتسليمه له تعالى.

و الاستجابة لله هي العبودية والتسليم، و «العقل» هو مبدأ هذه الاستجابة.

روى سماعة عن أبي عبد الله الصادق (ع): «خلق العقل، وهو أوّل خلق خلقه من الروحانيين عن يمين العرش من نوره، فقال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر» (1).

وهذه الرواية تتحدّث بلغة الرمز، وهي لغة مألوفة في الروايات الإسلامية، والإقبال هنا الاستجابة لأمر الله تعالى، وهو ما ذكرنا آنفاً أنّه جوهر العبودية لله تعالى. والعقل ينهض بهذه الرسالة في حياة الإنسان ويتبعه القلب ويقترن به.

مراتب الاستجابة والتلبية:

وللاستجابة أربع مراتب بعضها فوق بعض.

المرتبة الأُولى من الاستجابة: هي الاستجابة التكوينية لله تعالى، فكلّ شي ء في الكون مسخّر لأمر الله، يجري بأمره.

(وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) (2).

(وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (3).

والإنسان جزء من هذا الكون، ومقهور لإرادة الله ومسخّر لأمره تعالى في شطر


1- بحار الأنوار 109: 1
2- الأعراف: 54
3- النحل: 12

ص: 73

من شخصيته بالضرورة؛ وهذه الاستجابة التكوينية تعمّ المؤمن والمنافق والكافر، من دون فرق.

المرتبة الثانية من الاستجابة: الاستجابة لأمر الله تعالى، بمعنى الطاعة وعدم الاعتراض، وهي أدنى مراتب الاستجابة له تعالى، في التشريع والتكوين.

فإنّ للاستجابة مرتبتين:

1- الاستجابة بمعنى التسليم وعدم الاعتراض لأمر الله تعالى وحكمه في ساحة التشريع والتكوين.

2- الاستجابة بمعنى الرضا بأمر الله و حكمه في التشريع والتكوين.

ونقصد نحن بالاستجابة هنا المعنى الأول؛ وسيأتي الحديث عن الاستجابة بالمعنى الثاني في (المرتبة الثالثة) من هذا التقسيم، وهي فوق الاستجابة بمعنى التسليم بدرجة.

والاستجابة بمعنى التسليم، روح الإسلام وجوهره.

وقد روي عن أمير المؤمنين (ع) في هذا الشأن: «لأنسبنَّ الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي، ولا ينسبه أحد بعدي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل»(1) .

و التسليم بهذا المعنى لأمر الله في ساحة التشريع هو الإسلام لله تعالى.

يقول تعالى: (وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ)(2) .

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ ...)(3) .

(وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(4) .


1- بحار الأنوار 309: 68
2- النساء: 125
3- آل عمران: 20
4- غافر: 66

ص: 74

وهو طاعة الله عزّ وجلّ ورسوله (ص).

يقول تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ) (1).

(وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(2) .

(أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (3).

وكما يحبّ الله تعالى من عباده التسليم له في أحكامه وحدوده وشريعته، يحبّ منهم التسليم في قضائه وقدره.

وهو من خصائص الإيمان، ولا شك في أنّ الإنسان يحبّ العافية فيما يرزقه الله تعالى.

ولكن المؤمن إذا أنزل به البلاء سلّم أمره إلى الله تعالى.

يروى أن صبياً لأبي جعفر الباقر (ع) كان قد مرض واشتدّ مرضه، فقلق الإمام الباقر (ع) و بان ذلك على وجهه، فمات الطفل فانبسط وجه الإمام الباقر (ع) واطمأن، فتعجّب من ذلك أصحابه.

فقال (ع): «إنّا لنحبّ أن نعافى فيمن نحبّ، فإذا جاء أمر الله سلّمنا فيما يحبّ»(4) .

وعن أبي الحسن الرضا (ع) عن أبيه موسى عن جعفر (عليهما السلام) قال: «أمرني أبي (يعني أبا عبد الله (ع)) أن آتي المفضل بن عمرو فأعزّيه بإسماعيل، وقال: اقرء المفضل السلام، وقل له: أصبنا بإسماعيل فصبرنا، فاصبر كما صبرنا. إذا أردنا أمراً وأراد الله أمراً سلّمنا لأمر الله»(5) .


1- آل عمران: 32
2- آل عمران: 132
3- الأنفال: 20
4- بحار الأنوار 301: 46
5- المصدر السابق 103: 82

ص: 75

وروي عن الإمام الصادق (ع): «لم يكن رسول الله يقول الشي ء قد مضى لو كان غيره»(1) .

وهذه المرتبة من التسليم في الاستجابة لأمر الله- تعالى- تجري في أحكامه تعالى في التشريع والتكوين على نحو سواء.

المرتبة الثالثة من الاستجابة: الاستجابة والتسليم لأمر الله عن رضا، وهذه مرتبة فوق المرتبة السابقة وتجري في التشريع والتكوين كذلك على نحو سواء.

عن رسول الله (ص): «أعبد الله في الرضا، فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير» (2).

وفي هذه الرواية تفكيك واضح بين مرتبتين من الاستجابة و المرتبة العليا هي الاستجابة والتسليم عن رضا، فإن لم يتمكّن العبد من هذه المرتبة فليصبر، ويسلّم أمره لله تعالى عن صبر على قضاء الله وقدره، ولا يعترض، ولا يتذمر، ولا يشكو من قضاء الله.

وليس معنى «الرضا» بأمر الله أن لا يحبّ الإنسان لنفسه ولن يحبّ شيئاً، ولكن معنى ذلك أنّ العبد إذا عرف أنّ الله يحبّ ما يكره رضي بما يحبّ الله، وجعل رضاه تبعاً لرضا الله عزّ وجلّ.

روي عن أبي عبد الله الصادق (ع):

«إنّا قوم نسأل الله ما نحبّ فيمن نحبّ، فيعطينا، فإذا أحبّ ما نكره فيمن نحبّ رضينا» (3).

والمرتبة الرابعة للاستجابة: هي الاستجابة عن حبّ وشوق إلى الله تعالى،


1- تنبيه الخواطر: 417
2- المحجة البيضاء 104: 5
3- بحار الأنوار 132: 82

ص: 76

ودعوته، وأمره، وقضائه.

والحبّ والشوق مرتبة فوق مرتبة الرضا.

وأحسن حالات العبادة والإقبال على الله والاستجابة لدعوته تعالى وأمره وذكره، هو ما يكون عن شوق وحبّ.

عن رسول الله (ص):

«أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يبالي أصبح من الدنيا على عُسر أم على يُسر»(1) .

يروي هارون بن خارجة عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال:

«إنّ العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله حبّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(2) .

عن يونس بن ظبيان قال: قال الصادق جعفر بن محمد (ع):

«إنّ الناس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاث أوجه: فطبقةٌ يعبدونه رغبةً في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء، وهو الطمع؛ وآخرون يعبدونه خوفاً من النار، فتلك عبادة العبيد، وهي الرهبة؛ ولكني أعبده حبّاً له عزّ وجلّ، فتلك عبادة الكرام، وهو الأمن لقوله عزّ وجلّ: (هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (3)، ولقوله عزّ وجلّ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(4) ؛ فمن أحبّ الله عزّ وجلّ أحبّه الله، ومن أحبّه الله كان من الآمنين» (5).


1- أُصول الكافي 83: 2
2- وسائل الشيعة 45: 1، مكتبة الإسلامية، طهران
3- النمل: 89
4- آل عمران: 31
5- وسائل الشيعة 46: 1؛ عن علل الشرائع: 16؛ والمجالس: 21؛ والخصال 88: 1

ص: 77

وعن أمير المؤمنين (ع):

«إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» .(1)

يقول الشيخ محمد مهدي النراقي في كتابه القيّم «جامع السعادات» في التعليق على الروايات الواردة في «عبادة الأحرار»:

«لا ريب في أنّ العبادة على الوجه الأخير لا نسبة لمنزلتها ودرجتها إلى درجة العبادة على الوجهين الأوّلين، فإنّ من تنعّم بلقاء الله والنظر إلى وجهه الكريم يسخر ممّن يلتفت إلى وجه الحور العين» (2).

«تكبيرة الإحرام» و «التلبية»:

وقد أودع الله تعالى في «الحج» كنوزاً من الوعي، والإخلاص، والانفتاح، والإقبال على الله، والإعراض عمّا دون الله، والكدح، والتسليم، والتوحيد، والاخلاص، والتوكل، والذكر، والولاء، والبراءة، وغير ذلك من أبواب المعرفة والكدح إلى الله، ومفتاح هذه الكنوز جميعاً «التلبية»، ولا ينال الحاج ما أودع الله تعالى في الحجّ من هذه الكنوز إلّا إذا أحسن التلبية.

ومن لا يحسن التلبية لا ينال من حجّه الكثير، وكلّ ما كان حظّ الحاج أكثر من الإقبال والانفتاح على الله في التلبية، كان حظّه من مواهب الحجّ أكثر.

وشأن «التلبية» في الحجّ شأن «تكبيرة الإحرام» في الصلاة، فإنّ الصلاة كنز، ومفتاح هذا الكنز تكبيرة الإحرام؛ ومن أحسن «تكبيرة الإحرام» في الصلاة فتح الله تعالى عليه كنوز الصلاة، ومن لم يحسن تكبيرة الاحرام، كانت صلاته هيكلًا من دون روح.


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي صالح 510: 3 حكمة رقم 237
2- جامع السعادات 117: 3

ص: 78

فإنّ كلًّا من الصلاة والحج، رحلة إلى الله تعالى، وكلّ رحلة إلى الله عروج وصعود. ولابدّ في هذا العروج من أن ينفصل عن هذه الدنيا ويقلع عنها إقلاعاً كاملًا بصورة مؤقتة خلال هذه الرحلة، وما لم يقلع الإنسان في صلاته وحجّه عن دنياه، وما لم يتحرّر من الأواصر والعلائق التي تشدّه إلى هذه الدنيا شدّاً، لايستطيع الإنسان أن يجد في صلاته وحجّه ذوق العروج والسفر إلى الله.

وليس يدعو الإسلام الناس إلى أن ينفصلوا عن دنياهم التي لابدّ لهم منها، ولايريد منهم أن يعرضوا عن هذه الدنيا وما فيها، من لذّة، ونعيم، وعلائق، و وشائح تشدّهم بها، و إنّما يطلب منهم أن يتحرّروا في حياتهم من أسر التعلّق بهذه الدنيا وحبّها والافتتان بها؛ وهذا رأي الإسلام في التعامل مع الدنيا.

تكبيرة الإحرام مفتاح الصلاة:

فإذا أقبل العبد على الله- تعالى- في صلاته فلابدّ من أن يفصل نفسه عن هذه الدنيا وما فيها من علائق ووشائج ولذّة وفتنة فصلًا كاملًا، لكي يستطيع أن ينعم بلذّة العروج والصعود إلى الله في الصلاة.

ففي هذه الرحلة العجيبة التي يكرم الله- تعالى- بها عباده في كلّ يوم خمس مرّات، يمرّ الإنسان بآفاق رحبة من الحمد، والعبادة، والاستعانة بالله، والتوحيد، والتعظيم، والدعاء، والتسبيح، والتأليه، والذكر، والشكر، والتضرّع، والإبتهال، والمناجاة، والتسليم له، وما لا طاقة لي على إحصائه من آفاق العبودية لله، وليس بإمكان الإنسان أن يقطع هذه الآفاق الرحبة المباركة من لقاء الله، ما لم ينفصل بشكل كامل عن هذه الدنيا وما فيها، من لذّة، ونعيم، وعلائق، ووشائج، وهمّ، وحرص، وقلق، وانشغال، فإنّها تصرفه وتشغله عن آفاق اللقاء في هذه الرحلة.

وأشدّ ما في الصلاة، هو هذا الانفصال والإقلاع عمّا حول الإنسان من العلائق

ص: 79

والوشائج ومن الهمّ والتفكير في الدنيا والانشغال بها، فإذا أمكنه أن يقلع في صلاته عن ذلك كلّه، أمكنه أن يعرج في صلاته إلى الله، وأن يتمتع في هذه الرحلة بلذّة لقاء الله، وأن يعيش فيها آفاق اللقاء الرحبة المباركة، وأن يتمتع بمواهبها وكنوزها.

ومفتاح ذلك كلّه «تكبيرة الإحرام»، فإنّها إذا أدّاها مقيم الصلاة أداءً صحيحاً تفصله مرّة واحدة،- وبحركة سريعة خفيفة عمّا حوله- فصلًا سريعاً قويّاً.

فإنّ تكبيرة الإحرام تتضمّن بُعدين، أحدهما يتضمّن الآخر، وهما معاً يقوّمان معنى هذه التكبيرة العظيمة التي يفتح بها المصلّي صلاته.

البُعد الأول: تكبير الله تعالى وتعظيمه؛ والله كبير عظيم، ذو الجلال، والكبرياء، والعظمة، إلّا أنّ هذا التكبير يتضمّن معناً رقيقاً يستحقّ الكثير من التأمل والتفكير، وهو معنى «أفعل التفضيل» في هذه الكلمة، ومقارنة كبرياء الله تعالى إلى وضاعة الدنيا، وجلال الله إلى حقارة ما يشغله ويصرفه عن الله؛ فكلّ ما في هذه الدنيا ممّا دون الله حقير وضيع بالقياس إلى الله، ومتاع زائل، ومن سقط المتاع ومتاع الغرور، بالقياس إلى ماعندالله من النعيم الذي لايزول.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَ الأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الآْخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(1) .

ومتاع مثل هذا المتاع زائل ووضيع لا يستحق أن يصرف الإنسان ويشغله عن الله ذي الجلال والاكرام، ولو للحظة واحدة، ولا يحسن به أن يرافقه في هذه الرحلة، فيشغله عن الله، ويصرفه عنه تعالى، ولو لبعض الوقت، وببعض الانشغال


1- الحديد: 20

ص: 80

والانصراف، فإنّ الله أكبر من كلّ ذلك وأجلّ وأعظم، وهو الباقي وما في هذه الدنيا زائل، وهو الحقّ وما في هذه الدنيا باطل، وهو العظيم وما في هذه الدنيا حقير. وهذا هو البُعد الثاني الذي تتضمنّه تكبيرة الإحرام؛ وهذا البُعد نستنبطه من معنى «أفعل التفضيل» في التكبيرة.

ويستحب أن يفتح الذي يقيم الصلاة صلاته بسبع تكبيرات، ليؤكّد ويعمّق في نفسه حالة الإقلاع والفصل عن الدنيا، ويتجاوز بها الحجب التي تحجبه عن الله تعالى، ليمكنه بعد ذلك أن ينطلق إلى الله في هذه الرحلة العجيبة.

وقد روي في تعليل التكبيرات السبعة في افتتاح الصلاة: «أنّ النبي (ص) لمّا أسري به إلى السماء قطع سبعة حُجب، فكبّر عند كلّ حجاب تكبيرة، فأوصله الله- عزّ وجلّ- بذلك إلى منتهى الكرامة» (1).

والتلبية مفتاح الحج:

وينطلق الحاج إلى الحجّ من «الميقات» ب- «التلبية»، والتلبية مفتاح الحجّ، كما أنّ التكبيرة مفتاح الصلاة، ومن دون التلبية لا يتمكّن الحاج من أن ينطلق في هذه الرحلة المباركة التي شقّ طريقها إليها أبونا إبراهيم (ع)، وعمّقه، ووكده ابنه المصطفى خاتم الأنبياء (ص).

ولا يتأتّى للإنسان أن ينطلق إلى الله في هذه الرحلة الإبراهيمية في الاستجابة لدعوة الله تعالى، من دون أن يفتح كلّ قلبه في هذه الاستجابة، ويلبّي الدعوة إلى هذه الضيافة التي ينعم بها الله تعالى على عباده في كلّ سنة، عند بيته المحرّم، بكلّ مشاعره وأحاسيسه وعقله وقلبه.

ولا تتأتّى له هذه الاستجابة وهذا الانفتاح على هذه الدعوة إلّا إذا كان يُعرِض في هذه الرحلة- على الأقل- عن كلّ دعوة أخرى يدعوه إليها ما في


1- وسائل الشيعة 722: 4

ص: 81

هذه الدنيا من متاع الحياة الدنيا- بصورة مؤقتة-، ويصرف نفسه و قلبه عن كلّ ما يشغل باله وهمّه عن هذه الدعوة.

إنّ التلبية من فعل القلب، وأفعال الجوانح تختلف عن أفعال الجوارح.

فليس في وُسع القلب أن يكون له في وقت واحد همّان واهتمامان، وانشغالان، وانصرافان واستجابتان، وذكران، بعكس الجوارح التي يمكنها أن تمارس في وقت واحد أكثر من فعل واحد.

يقول تعالى: (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(1) .

فليس في جوف الإنسان إلّا قلب واحد، وليس للقلب الواحد إلّا اهتمام واحد.

فإمّا أن يصرف الإنسان هذا الإهتمام في الاستجابة إلى الله تعالى، وإمّا أن يصرفه إلى غير الله، أو يعطّل الإنسان قلبه، ويبلّده، فيكون محلًا لكل شاردٍ وواردٍ ويكون مثله مثل الحوانيت، فيها من كل بضاعة وسلعة.

التلبية إستجابة وإعراض:

والتلبية استجابة وإعراض، إستجابة لدعوة الله- تعالى- وإعراض عن كلّ دعوة أخرى، ممّا تلقاها في هذه الدنيا.

وليس يدعو الإسلام المسلمينَ إلى الإعراض عن الدنيا، وليس ينهي الإسلام عن الإقبال على هذه الدنيا وفتنها، وإنّما يدعوهم إلى أن يجعلوا إستجابتهم لها في طول استجابتهم لدعوة الله وامتدادها، وليس في عرضها، وإلى جنبها.

وأمّا في «الحج» فلا يتمكّن الحاج أن يستجيب لهذه الدعوة الإلهية وأن يقطع آفاق هذه الرحلة الإبراهيميّة المباركة إن لم يمحّض قلبه واهتمامه وإستجابته لله


1- الأحزاب: 4

ص: 82

تعالى، ولا يتأتّى له هذا التمحيض إن لم يعرض عن أية دعوة أخرى في هذه الدنيا، حتى لا تشغله دعوة عن هذه الدعوة، ولا تصرفه مغريات دعوات الدنيا وعواملها وفتنها عن دعوة الله تعالى لعبادة الله.

و «التلبية» تتضمّن هذين المعنيين معاً، الاستجابة لله، والإعراض عن غير الله، والانفتاح على الله والانقلاب عمّا دون الله.

الانقلاب الذي يحدث في «الميقات» بفعل «التلبية»:

و «التلبية» تفصل الحاج في الميقات فصلًا كاملًا عن دعوات هذه الدنيا ومغرياتها، وفتنها، وإثاراتها مرّة واحدة، ويصبّ الحجاج من كلّ فجّ عميق في الميقات بأزياء مختلفة وهموم كثيرة واهتمامات عديدة، فيصيغهم الله تعالى في «الميقات» صياغة جديدة وينتزعهم من كلّ رغباتهم، وهمومهم، وإهتماماتهم إنتزاعاً كاملًا ب- «التلبية»، ويمحّضهم للاستجابة لدعوته تعالى، وينزعهم أزياءهم، ويوحّد نسكهم، وزيّهم، وهمّهم، وإهتمامهم، وعملهم، ومسارهم، ويَصُبَّهُم في مصبٍّ واحد إلى بيته المحرّم.

و مبدأ كلّ ذلك ومنطلقه «التلبية»، فإنّ التلبية توحّد في نفس الحاج شتات الهموم والاهتمامات والاستجابات والرغبات، وتوحّد همّهم واهتمامهم ورغباتهم واستجاباتهم باتّجاه الاستجابة إلى دعوة الله تعالى.

إنّ «التلبية» تجمع شتات إهتمامات الإنسان في همّ واهتمام واحد، وتجمع بنفس الطريقة شتات إهتمام الناس وتعدد مذاهبهم في الحياة الدنيا في إتجاه واحد.

إنّ الحياة الدنيا تُشَتِّتُ الإنسان إلى هموم واهتمامات شتّى، وتُشَتِّتُ الناس إلى مصالح ومذاهب شتّى.

ص: 83

والميقات يجمع شتات الناس في همّ واحد، واهتمام واحد، وزيّ واحد، وطريق واحد.

و «التلبية» هي وسيلة هذا التوحيد، وفي الوقت نفسه توجّه هذا الحشد البشري الهائل الواحد إلى الله الواحد القهّار.

فهي توحّد الإنسان (الفرد) وتوجهه إلى الله.

وتوحّد الناس (المجتمع) وتوجّههم إلى الله.

وهذا التحول العظيم يجري في «الميقات» بفعل «التلبية» و «الميقات»، و «الحرم» وعاء هذا التحول، و «التلبية» عامل هذا التحول.

وغاية الحجّ أن تتحوّل ساحة الحياة كلّها إلى «الميقات» و «الحرم»، ويكون لكلمة «لا إله إلّا الله» في ساحة الحياة الواسعة نفس الفعل والدور الذي يكون لكلمة «التلبية» في الحج، وأن ينقل الحجّاج «الحرم» إلى واقع حياتهم في «السوق».

ومن بؤس الناس وشقائهم أنّهم ينقلون «السوق» إلى «الحرم»، بخلاف ما يريده الله تعالى.

إنّ «التلبية» تعيدُ بناء الفرد والمجتمع.

وهذا البناء يتمّ على صعيدين:

توجيه الناس إلى الاستجابة لله تعالى، وهو البُعد الأوّل.

وتوحيد الناس بهذا الاتجاه، وهو البُعد الثاني.

والبُعد الأول يوحّد شتات هموم الإنسان واهتماماته، والبُعد الثاني يوحّد شتات مذاهب الناس ومصالحهم وأعمالهم.

ويحبّ الله تعالى أن ينقل الحجاج هذه «الوحدانية الموجّهة» إلى حياتهم في الأسواق، وفي مواقع الحكم والسياسة، وساحات الصراع ... ومن عجب أنّ الناس

ص: 84

ينقلون شتات أهوائهم وميولهم ومذاهبهم إلى «الميقات» و «الحرم» للأسف.

ولو أمعنّا النظر في «الميقات» و «التلبية» لقلنا: إنّ الميقات ليس فقط يستقبل شتات الناس ليصهرهم في اتجاه واحد، واهتمام واحد، وأسرة واحدة، وهمّ واحد، وإنّما ينتزعهم من دنياهم انتزاعاً ليعبد بناءهم الفردي والاجتماعي، بعد أن شتتتهم الحياة الدنيا إلى آراء ومذاهب ومصالح وهموم.

هذا إذا أعطى الحاج نفسه ل- «التلبية»، وفَعَّلَ «التلبية» في نفسه، وفتح كلّ قلبه بالتلبية على الله، ولم يحتفظ لنفسه عند التلبية بشطر من قلبه، ليعطي الشطر الآخر لله تعالى، فإنّ القلب السليم لا ينشطر ولا يتعدّد. (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).

والقلب البليد العاطل فقط ينشطر ويتعدّد.

وأمارة سلامة القلب توحيد الله، وأمارة بلادة القلب وعَطَله التعدّد والانشطار.

والتلبية توجه القلوب إلى الاستجابة لله، وتوحّد شتات القلوب في هذه الاستجابة.

وهذه هي أبعاد هذا التحول العظيم، ووعاؤه «الميقات» و «الحرم»، وعامله «التلبية».

روي عن الإمام الرضا (ع): «إنمّا أمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وأمنه، ولئلّا يلهو ويشتغلوا بشي ء من أمور الدنيا وزينتها ولذّاتها، ويكونوا جادّين فيما هم فيه، قاصدين نحوه مقبلين عليه بكليتهم»(1) .

تأكيد التلبية:

لقد ورد في النصوص الإسلامية الاهتمام بتكرار التلبية، والإكثار منها وترديدها.

ص: 85

روى ابن أبي عمير وابن فضّال عن رجال شتّى عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): «من لبّى في إحرامه سبعين مرّة احتساباً أشهد الله له ألف ملك ببراءة من النار وبراءة من النفاق» (2).

والبراءة من النفاق من نتائج التلبية، فإنّ التلبية وترديدها وتكرارها تزيل النفاق من النفس وتبرئ صاحبها من حالة النفاق، و من تشتت الميول والأهواء والهموم.

وكان رسول الله (ص) يلبّي بالتلبيات الأربع المعروفات ويكثر من ذي المعارج (3) .

وهي:

شعور الحاج عند التلبية:

إنّ التلبية تقترن في نفس الحاج بانفعالات نفسيّة وأحاسيس مختلفة، فهي تقترن بالشوق إذ يقبل الحاج إلى الميقات ملبّياً دعوة ربّه، ويقترن بالإحساس بالهيبة عندما يشعر الحاج أنّه يقف بين يدي ذي الجلال والعظمة ليلبّي دعوته. ويقترن بالرهبة والخوف، عندما ينظر إلى نفسه، فلا يراها أهلًا لهذا التكريم الإلهي، ولا يراها موضعاً لهذه الدعوة الإلهية ويخشى إن لبّى أن يردّ الله تعالى تلبيته.


1- وسائل الشيعة 3: 9
2- المحاسن للبرقي: 64
3- قرب الاسناد: 76

ص:85

ص: 86

روى الصدوق في الأمالي عن ابن المتوكل عن السعدآبادي عن البرقي عن أبيه، عن الأزدي قال: سمعت «مالك بن أنس» فقيه المدينة يقول: كنت أدخل إلى الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، فيقدّم لي مخدّة، ويعرف لي قدراً، ويقول: مالك إنّي أحبّك، فكنت أسرّ بذلك، وأحمد الله عليه.

قال: وكان- عليه السلام- لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون الله عزّ وجلّ، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله (ص)، اخضرّ مرّة واصفرّ مرّةً أخرى، حتى ينكره من كان يعرفه.

ولقد حججت معه سنة، فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همّ بالتلبية إنقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ من راحلته، فقلت: يا ابن رسول الله ولابدّ لك من أن تقول، فقال: كيف أجسر أن أقول: لبّيك اللّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول عزّ وجلّ لي: لا لبّيك ولا سعديك (1).

وعند الوقوف بين يدي الله تعالى في موقف التلبية في الميقات تتفاعل هذه الانفعالات والأحاسيس في نفس الحاج، وهذا المزيج المتناسق والمتكامل من المشاعر والانفعالات النفسية تساهم في هذه النقلة والتحول النفسي والاجتماعي الذي يحصل للحجاج في «الميقات» و «الحرم».


1- أمالي الصدوق: 169

ص: 87

القبلة والطواف

اشارة

ص:88

ص: 89

قيمة الكعبة:

شرّف الله «الكعبة» وجعلها مثابةً للناس يثوبون إليها، ويجتمعون حولها، ويجدون عندها الأمن الذي يفتقدونه في حياتهم، (وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً ...) (1).

وهي بيت الله شرّفه الله- تعالى- وخصّه لنفسه، وجعله مباركاً، وهدًى للعالمين.

وخصّ الله- تعالى- الناس من بين سائر خلقه ببيته الذي أكرمه وخصّه لنفسه، فقال تعالى:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ...)(2) .

وجعل الله الكعبة قياماً للناس، تقوّم علاقتهم بالله، وحركتهم وكدحهم إليه، وتقوّم معاشهم ومعادهم، ودنياهم وآخرتهم، وتنظّم علاقتهم بالله- تعالى- وبأنفسهم. (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (3).


1- البقرة: 125
2- آل عمران: 96
3- المائدة: 97

ص: 90

فضل الكعبة:

وقد خصّ الله- تعالى- الكعبة بفضل عظيم، يقول أمير المؤمنين (ع) في فضل الكعبة:

«أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ، اخْتَبَرَ الْاوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، إلَى الْاخِرِينَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ؛ بِأَحْجَار لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً. ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْارْضِ حَجَراً، وَأَقَلَّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الْاوْدِيَةِ قُطْراً. بَيْنَ جِبَال خَشِنَة، وَرِمَال دَمِئَة، وَعُيُون وَشِلَة، وَقُرًى مُنْقَطِعَة؛ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ، وَلَا حَافِرٌ وَلَا ظِلْفٌ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ. تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْافْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَار سَحِيقَة وَمَهَاوِي فِجَاج عَمِيقَة، وَجَزَائِرِ بِحَار مُنْقَطِعَة، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلا يُهَلِّلُونَ (يهلّون) للهِ حَوْلَهُ، وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ، ابْتِلَاءً عَظِيماً، وَامْتِحَاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَوُصْلَةً الَى جَنَّتِهِ. وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّات وَأَنْهَار، وَسَهْل وَقَرَار، جَمَّ الْاشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ، مُلْتَفَّ الْبنىَ، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّة سَمْرَاءَ، وَرَوْضَة خَضْرَاءَ، وَأَرْيَاف مُحْدِقَة، وَعِرَاض مُغْدِقَة، وَرِيَاض نَاضِرَة، وَطُرُق عَامِرَة، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ. وَلَوْ كَانَ الْاسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا، وَالْاحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَة خَضْرَاءَ. وَيَاقُوتَة حَمْرَاءَ، وَنُور وَضِيَاء لَخَفَّفَ ذلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ ابْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنَّ اللهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، اخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلِيَجْعَلْ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً الَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلا لِعَفْوِهِ».

ص: 91

وعن أمير المؤمنين (ع): «إذا خرجتم حجاجاً إلى بيت الله- عزوجل- فأكثروا النظر إلى بيت الله، فإنّ لله- عزوجل- مائة وعشرين رحمة عند بيته الحرام، منها ستون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين»(1) .

وعن معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله (ع)، قال: «لله- تبارك وتعالى- حول الكعبة عشرون ومائة رحمة، منها ستون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين» (2).

وعن إسحاق بن عمار، قال أبو عبد الله (ع): «يا إسحاق! مَن طاف بهذا البيت طوافاً واحداً كتب الله له ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، أفلا أخبرك بما هو أفضل من هذا؟ قلت: بلى. قال: من قضى لأخيه المؤمن حاجة كتب الله له طوافاً وطوافاً حتّى بلغ عشراً»(3) .

دروس من الكعبة:

ل- (الكعبة) المشرّفة توجيهان في حياة المسلمين وهما: (القبلة) و (الطواف).

وكلّ منهما يرمز إلى معنى يختلف عن المعنى الآخر، وسوف نتحدّث إن شاء الله عن كلّ منهما، ونبدأ بالقبلة.

1- القبلة

اشارة

(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) (4)

للقبلة دور مزدوج، فهي أولًا ترمز إلى توجيه الوجوه إلى الله في كل يوم


1- بحار الأنوار 202: 99
2- نفس المصدر
3- نفس المصدر 203: 99
4- البقرة: 144

ص: 92

خمس مرات على الأقل.

فإنّ استقبال القبلة يحمل هذا الرمز التوحيدي في الصلاة بوضوح وهو:

أنّ الإنسان في الصلاة إذا استقبل القبلة فإنه يعطي وجهه لله تعالى في الصلاة، معرضاً بوجهه عن كل شي ء آخر غير الله.

وتوجيه الوجوه إلى الله في الصلاة هو الرسالة الأولى لاستقبال القبلة، بلغة الرمز.

والرسالة الرمزية الثانية لاستقبال القبلة: أنّ القبلة يوحّد وجوه المسلمين جميعاً باتجاه الله، ويحفظ وجوه الناس من التشتّت والاختلاف في الله وعن الله ... وهذه الرسالة وتلك بلغة الرمز، وهي لغة معروفة ومقروءة في الثقافة الإسلامية.

ولابدّ من بعض التفصيل لهذا وذاك:

الدور الأول للقبلة: تسليم الوجوه إلى الله:

استقبال الكعبة في الصلاة يرمز إلى تسليم الوجوه لله تعالى، وتسليم الوجه لله بمعنى أن يسلّم الإنسان جهة حركته ومساره لله تعالى، ويعطي وجهه لله.

أنحاء التسليم:

والتسليم لله في حياة الإنسان على ثلاثة أنحاء:

1- التسليم لقضاء الله وقدره؛ بمعنى أن لا يعترض الإنسان ولا يتذمر لما يقدر الله- تعالى- له من القضاء والقدر في السرّاء والضّراء، وفوق درجة التسليم هذه درجة (الرضا بقضاء الله وقدره) وهو من أسمى مراتب العبودية واليقين ... وقد تحدثنا عن ذلك.

2- التسليم لدين الله وحكمه وشريعته، بمعنى الطاعة والانقياد والاستسلام لأمر الله وحكمه، والالتزام بحدود الله- تعالى- بصورة دقيقة، وهو (التقوى)؛ وهذا التسليم يختلف عن التسليم الأول، فإنّ التسليم هنا يتمّ بالانقياد الطوعي

ص: 93

والإرادي لحكم الله تعالى وحدوده ... بينما التسليم في الفقرة الأولى بمعنى عدم الاعتراض والتذمر من قضاء الله- تعالى- وقدره والرضا به؛ أما القضاء والقدر فينزلان على الإنسان بغير إرادته واختياره، ويقهرانه على ذلك، أراد ذلك أو لم يرد.

3- أن يسلّم الإنسان وجهه لله، بمعنى أن يجعل وجه الله ومرضاته وطاعة أحكامه وأوامره غايته في حركته، ويسعى إليه، ويكون همّه تحقيق مرضاة الله، والتقرّب إليه وابتغاء وجهه الكريم.

وهذا التسليم يختلف عن التسليم في الفقرة الثانية، ففي الفقرة الثانية يأتي التسليم بمعنى الطاعة، وتجنّب المعصية، والعمل والحركة ضمن حدود الله تعالى، وعدم تعدي الحدود الإلهية، والاجتناب عن انتهاك حرمات الله.

بينما التسليم في الفقرة الثالثة مسألة نفسية وذهنية وهي ابتغاء وجه الله ومرضاته حتى في الطاعة والتسليم لأمر الله، يبتغي بها وجهه ومرضاته تعالى.

*** والتسليم لله بالمعنى الثالث هو رسالة القبلة، وهو أحد الدورين الذين تنهض بهما (الكعبة) في حياة الإنسان؛ قال تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ ...) (1). و (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ...)(2) ، و (وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ ...) (3)، و (وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ...) (4).


1- آل عمران: 20
2- البقرة: 112
3- النساء: 125
4- لقمان: 22

ص: 94

وكما ليس للإنسان إلّا قلب واحد (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (1) كذلك ليس للإنسان إلّا وجه واحد، وهذا الوجه إمّا أن يكون إلى الله، أو إلى جهة أخرى غير جهة الله.

وقد يتمكن الإنسان في وقت واحد أن يقوم بعملين (يمشي ويتكلّم مثلًا)، ولكن لا يمكن أن يعطي وجهه في وقت واحد إلى جهتين.

إذن معنى تسليم الوجه إلى الله هو أن يكون همّ الإنسان، وغايته في حركته ومسعاه هو مرضاة الله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (2).

وهو أن يضع الإنسان وجهه قبال وجه الله الكريم، ويعطي وجهه لله، وهو بمعنى الإقبال على الله في الحركة والاعراض عن غير الله.

إذن فإنّ (وجه الله الكريم) ينظم مسير الإنسان وحركته، عندما يعطي الناس وجوههم ونواصيهم لله.

وقد يعبّر القرآن عن هذا المعنى ب- «إقامة الوجه للدين»:

(وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(3) .

وإقامة الوجه للدين، بمعنى تسليم الوجوه وتوجيهها لله تعالى، فإنّ مهمة الدين في حياة الانسان هو توجيه وجه الناس إلى الله.

الحالات الثلاث للإنسان:

وتوجيه الوجوه إلى الله هي الحالة الوحيدة للاستقامة على الصراط المستقيم في حياة الإنسان؛ وهذه الحالة تقع مقابل حالة الإعراض والانحراف عن الله ... وهما


1- الأحزاب: 4
2- الأنعام: 162
3- يونس: 105

ص: 95

حالتان مختلفتان في حياة الإنسان.

فحالات الإنسان بالنسبة إلى الله تعالى ثلاث:

1- حالة الاستقامة على الصراط المستقيم في حياة الإنسان.

2- حالة الإعراض والصدود عن الله وهي حالة (المغضوب عليهم).

3- حالة الانحراف عن الله، من دون إعراض وصدود، وهي حالة (الضالين).

وهذه ثلاث حالات للإنسان بالنسبة إلى الله- تعالى- تشير إليها سورة الفاتحة.

والحالة الأولى هي الحالة الوحيدة للاستقامة في حياة الإنسان.

وأبعد حالات الإنسان عن الله- تعالى- هي حالة الإعراض والصدود عن الله، وهي حالة المغضوب عليهم ... وفي هذه الحالة يخرج الإنسان عن دائرة رحمة الله الواسعة التي لا تضيق بشي ء إلّا أن يشاء الله، وهي حالة السقوط والهلاك للإنسان ... وهذه الحالة تحجب الانسان عن الله حجباً كاملًا، وبين هاتين الحالتين حالة الانحراف عن الله، من دون إعراض وصدود، وهي حالة الضالين، وهذه الحالة حالة منحرفة عن الله، وليست على الصراط المستقيم، ولكنها لا تحمل إعراضاً وصدوداً عنه تعالى، فهي لذلك تقع في دائرة رجاء رحمته عزوجل.

واستقبال القبلة يرمز إلى هذه الحالة الوحيدة للاستقامة على الصراط المستقيم، وهي الحالة التي يوجه الإنسان وجهه ويسلمه لله- تعالى- وهذا هو الدور الأوّل للقبلة.

الدور الثاني للقبلة:

والدور الثاني للقبلة أنّها توجّه وجوه الناس جميعاً إلى الله، وهذه الصفة (الاجتماعية) في تسليم الوجوه لله تعطي الإنسان قرباً وسرعةً وإقبالًا أكثر في حركته إلى الله.

ص: 96

ومن عجب، أنّ حركة الإنسان إلى الله وسط حركة جماهير المؤمنين إلى الله أسرع وأقوى وأرضى إليه تعالى، من أن يتحرّك الإنسان وحده إلى الله إلّا أن يكون أمّة لوحده، كما كان إبراهيم (ع) لوحده أمّةً.

والله تعالى يحبّ أن يستقبل عباده مجتمعين، فإذا أقاموا الصلاة، أقاموها جميعاً، وإذا توجهوا إلى وجهه الكريم بوجوههم توجهوا جميعاً، وإذا صاموا صاموا جميعاً، وإذا أفطروا أفطروا جميعاً. وهذه الصفة (الاجتماعية) أمر أصيل وجوهري في هذا الدين؛ والقبلة تحقّق هذه الصفة الاجتماعية في تسليم الوجوه إلى الله، إضافةً إلى أصل التسليم.

2- الطواف

اشارة

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيتِ الْعَتيِقْ) (1)

والدور الثاني للكعبة أن تستوعب هذه الغاية (وهي مرضاة الله، ووجهه الكريم) كلّ جهد الإنسان وهمّه وحركته، وهو ما يرمز إليه (الطواف).

فإنّ (القبلة) توجّه الإنسان إلى الله في صلاته، وهذه مهمّة صعبة وشاقّة، إلّا أنّ هذه المهمّة- في حدود القبلة- لا تستوعب كلّ جهد الإنسان وحركته، فإنّ الإنسان يصلّي، ويسعى ويتحرّك في مناكب الأرض ابتغاءً للرزق، ويتزوّج، ويتعلّم، ويعلّم، ويحبّ، ويبغض، ويذهب إلى السوق، ويعود إلى البيت، وليس عليه من بأس في ذلك، إذا كانت هذه الحركة في غير معصية الله؛ غير أنّ شطراً كبيراً من جهد الإنسان وحركته واهتماماته يقع خارج هذه الجهة (مرضاة الله ووجه الله) دون أن تعارضه، ولا تستوعب كلَّ همومه وحركته وسعيه، ولا بأس


1- الحج: 29

ص: 97

على الإنسان في ذلك، غير أنّ حركته في هذه الحالة إلى الله تكون حركة بطيئة؛ يتحرّك إلى الله إذا أقبل بوجهه على الله في صلاته، ويتوقّف عن الحركة إلى الله إذا قضى صلاته، وذهب لغيرها من شؤونه في الحياة، كالمجتمعات المسيحية المعاصرة، فإنّ التوجه إلى الله في هذه المجتمعات لا يستوعب إلّا جزءاً يسيراً من جهد الناس وحركتهم في ساعة أو بضع ساعة من أيام الآحاد في الكنيسة، فإذا قضوا هذه الساعة في الكنيسة، وانصرفوا إلى سائر شؤونهم في الحياة، انصرفوا عن الله إلى غيره من شؤونهم من حلال أو حرام.

وأقل مايقال في ذلك أنّ حركة الإنسان إلى الله تعالى تكون بطيئة، ومنقطعة، ومثل هذه الحركة البطيئة المتقطعة، لا تكاد أن توصل الإنسان إلى (لقاء الله).

و (الطواف) يعلمنا أنّ من الممكن أن يستوعب (وجهُ الله) و (مرضاةُ الله) كلّ جهد الإنسان وحركته وسعيه في السوق والبيت والمسجد والمدرسة وساحات الحرب وميادين السلم دون أن يعطّل شيئاً من حركته ونشاطه.

الحالات الثلاث للإنسان:

ولابدّ من توضيح وتفسير لهذا الأمر فنقول:

انّ للإنسان تجاه الله ثلاث حالات:

1- حالة الشرك.

2- حالة التوحيد.

3- حالة الإخلاص.

وفيما يلي توضيح لهذه الحالات:

1- الشرك: وهي أنّ يحكّم الإنسان أكثر من عامل على سلوكه، بمعنى أن يحكّم الله- تعالى- على نفسه، ويحكّم الهوى والطاغوت في الوقت نفسه على

ص: 98

نفسه، فيخضع في سلوكه لهذه العوامل جميعاً وليس لحكم الله- تعالى- وأمره فقط، فيطيع الله تعالى، ويطيع الهوى والطاغوت في معصية الله، ويُحِلّ ما أحلّوه له ويحرّم ما حرّموه عليه في مقابل ما أحلّ الله وما حرّم الله.

وهذه الطاعة والانقياد للهوى والطاغوت ... تأتي في حياة الإنسان في عرض طاعة الله، وبمعصية الله ومخالفته.

والقرآن يسمّي هذه الطاعة التي تأتي في عرض طاعة الله، وتتمّ بمعصية الله ومخالفته ب- (الشرك).

فيقول- تعالى- في طاعة الهوى: (أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)(1) ، (أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ ...) (2).

وطاعة الهوى هو تأليه الهوى، ولا نعرف نحن معنى آخر لتأليه الهوى غير الطاعة والتسليم لعامل الهوى: هذا في طاعة الهوى.

وأمّا في طاعة الطاغوت فيقول تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً)(3) .

والعبودية هنا الطاعة، فإنّ النصارى لم يزيدوا على طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلّوا لهم وحرّموا عليهم، فعبادتهم لهم هي تحكيم أوامرهم ونواهيهم عليهم.

وقد روي في ذلك أنّ عدي بن حاتم قال لرسول الله (ص): إنّا لم نعبد أحبارنا ورهباننا؟ فقال له رسول الله (ص): «ألم تحلّوا ما أحلّوه، وتحرّموا ما حرّموه؟».

2- التوحيد: وهو أن يحكّم الإنسان على نفسه حكم الله- تعالى- فقط، ويأخذ بما أحلّ الله- تعالى- وينتهي عمّا حرّم الله- تعالى-، ولا يحلّل غير ما


1- الفرقان: 43
2- الجاثية: 23
3- التوبة: 31

ص: 99

أحلّ الله، ولا يحرّم غير ما حرّم الله، ويجعل الإنسان كلمة الله هي العليا في حياته، وأمر الله ونهيه هو النافذ الحاكم على سلوكه، يمتثل ما أمر الله تعالى به وينتهي عمّا نهى الله عنه؛ وهذا هو (التوحيد) و (التقوى).

ولكن ليس بالضرورة أن يكون كلّ عمله وتحركه وسعيه لوجه الله، وابتغاءً لمرضاة الله، فليس ممّا يضر ب- (التوحيد) أن يذهب الإنسان إلى السوق ابتغاءً للرزق، لا ابتغاءً لوجه الله ومرضاته، وإنّما يضرّ بالتوحيد أن يجعل عامل الرزق حاكماً على سلوكه في عرض حاكمية الله، ويأخذ بما يتطلّبه الرزق محلّلًا له، وإن كان في ذلك معصية الله ومخالفته.

والخلاصة: أنّ (التوحيد) هو أن يقبل الإنسان سيادةَ الله- تعالى- وولايتَه المطلقة على حياته؛ و (التقوى) هو تحكيم سيادة شريعة الله وحدها على سلوكه؛ فلا يرتكب الإنسان ما ينهى الله عنه، ولا يترك عمّا يأمر الله تعالى به، وليس من الضروري في (التوحيد) و (التقوى) أن يكون سلوك الإنسان كلّه- حتّى في دائرة المباح- لوجه الله وابتغاء مرضاته.

3- الإخلاص: وهو فوق مرتبة التوحيد، وتتحقّق هذه الحالة عندما يمحّض الإنسان نفسه وحياته، وسلوكه كلّه لله، وابتغاءً لمرضاته ووجهه، وتستوعب مرضاةُ الله كلَّ حركته ونشاطه وسلوكه، وتصبغ هذه الغاية (مرضاة الله) كلَّ سلوكه ونشاطه وحركته، أولئك المخلَصون.

والإخلاص بهذا المعنى هو الدعوة الثانية للأنبياء بعد دعوة (التوحيد)؛ والإخلاص ليس بمعنى أنّ يعطّل الإنسان نشاطه وسعيه في مناكب الحياة، في السوق، والبيت، والمزرعة، وساحات الحرب، والإدارة، والسياسة، ولكن بمعنى أن يطوّع الإنسان نشاطه وحركته في هذه الساحات كلّها لله تعالى.

ومن السهل أن يعطّل الإنسان شطراً كبيراً من نشاطاته وسعيه، لئلّا يكون

ص: 100

سعيه وحركته لغير الله، ولكن من الصعب أن يطوّع الإنسان نشاطه وحركته كلّها لله تعالى؛ ودعوة الإسلام هو أن يطوّع الإنسان حركته وسعيه لله، وليس أن يعطّل الإنسان نشاطه وحركته.

وهذان منهجان في التربية الروحية: التعطيل والتطويع.

والأوّل منهج سلبي يرفضه الإسلام، والثاني منهج ايجابي يدعو إليه الإسلام.

والطواف يرمز إلى هذا الشأن الصعب في علاقة الإنسان بالله تعالى؛ ففي الطواف يطوف الإنسان دورة كاملة حول الكعبة، في هذه الدورة يتحرّك كتفه الأيمن حول محيط دائرة كاملة من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال وفيما بين هذه الجهات جميعاً، ولا تبقى نقطة على هذا المحيط الدائري الشامل إلّا ويقطعه الإنسان بكتفه الأيمن. وهذا المحيط يساوي 0360 ولا نعرف جهة هندسية أوسع وأشمل من 0360 (أي محيط الدائرة).

وبينما يتحرّك كتف الإنسان الأيمن حول هذه الدائرة الشاملة يثبت كتفه الأيسر على مركز الدائرة وهو الكعبة، ولا يحيد عنه، في كلّ هذه الحركة الدائرية. ولهذا التركيز والتثبيت إلى جانب تلك الحركة الشاملة معنى عميق في حياة الإنسان المسلم، فإنّ من الممكن أن يقوم الإنسان بكامل النشاط المباح، الذي يقوم به سائر الناس في مناكب الحياة المختلفة، دون أن ينحرف حتّى لحظة واحدة عن ابتغاء وجه الله ومرضاته في شي ء من ذلك، فيذهب إلى السوق لله، ويسعى في مناكب الحياة لله، ويتزوّج لله، ويؤمّن معيشة أهله لله، ويعمل في ميادين السياسة لله، ويقاتل لله، ويدافع لله، وإذا أحبّ أحبّ لله، وإذا أبغض أبغض لله، وإذا سرّ سرّ لله، وإذا غضب غضب لله.

فلا تفوت الإنسان في هذه الحركة الواسعة حركة ولا نشاطاً ممّا ينشط له الناس في مساحة المباح، ولا ينحرف الإنسان في جزء من هذا النشاط الواسع عن

ص: 101

ابتغاء وجه الله ومرضاته، وعندئذ يكون مخلَصاً لله، أي خالصاً، لا يشوب نفسه ونيّته شي ء لغير الله.

يقول تعالى عن رسوله وكليمه موسى بن عمران: (وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا)(1) .

ويقول تعالى: (وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) (2).

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)(3) .

و (المخلَص والمخلَصين) في هذه الآيات بفتح اللام بمعنى الخالص، الذي خلصت نفسه ونيّته من كلّ شائبة لغير الله تعالى.

ففي تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(4) .

عن الإمام الصادق (ع)، والراوي سفيان بن عُيينَة، قال: سألته عن قول الله: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال: «القلبُ السليم الذي يلقى ربَّه وليس فيه أحدٌ سواه. قال: وكلُّ قلب فيه شركٌ أو شك فهو ساقط. وإنّما أرادوا الزهد في الدنيا لِتفرغَ قلوبهم للآخرة»(5) .

واذا أخلص الإنسان نفسه لله، وكان كلّ سعيه وحركته ونشاطه لله، فانّ كلّ شي ء في حياته يقربه إلى الله- تعالى- ... ذلك أنّه مقبل بوجهه إلى الله، كادح للقاء الله كدحاً في كلّ عمله وحركته ونشاطه، ولا يتوقّف عن الكدح والحركة والإقبال على الله في سعي أو عمل، مهما كان نوع هذا السعي والعمل، في ساحات السياسة أو القتال، وفي السّراء أو الضّراء، وفي السوق أو البيت أو المسجد ... كلّ ذلك يقربه


1- مريم: 51
2- الصافات: 40
3- الصافات: 74
4- الشعراء: 89
5- أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب الإخلاص، ح 5

ص: 102

إلى الله. ويكون عندئذ مع الصادقين في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

*** وقبل أن ننهي هذا الدرس عن (الطواف) نضيف إلى خصائص الطواف خصلة أخرى، وهي الصفة الاجتماعية في الطواف، إنّ الله تعالى يحبّ أن يقبل عباده إليه مجتمعين، ويكدحون ويتحركون إلى وجهه الكريم في صفوف متراصة، وحشود بشرية كبيرة من المؤمنين.

وهذه الخصلة الاجتماعية في الحركة إلى الله تعطي لهذه الحركة سرعة وقوّة ومتانة واستحكاماً أكثر، وشتّان بين أن يعبد الإنسان الله- تعالى- لوحده، أو يعبده في وسط حشد من المؤمنين، فإنّ العبادة الثانية أرضى وأقرب إلى الله تعالى، وأسرع إلى القبول ونيل مرضاة الله من الأولى.

و في الطواف نجد هذه الخصلة الاجتماعية بوضوح؛ حيث يدعو الله تعالى المؤمنين لطواف هذا البيت في أيام معدودات معلومات من السنة، فيتزاحم المؤمنون حول البيت العتيق، ويتدافعون بطبيعة الحال ويخلصون إلى الله في وسط هذا التدافع والتزاحم، وهو درس عجيب من دروس الطواف.

فإنّ العبادة وابتغاء مرضاة الله في وسط حشود المؤمنين يستتبع، بطبيعة الحال، مثل هذا التدافع والتزاحم، والتنافس، وأحياناً التنافس السلبي، ومع ذلك كلّه فإنّ الله- تعالى- يدعونا إلى أن نسلك الطريق إليه وسط حشود المؤمنين مع هذا التزاحم والتنافس، ويدعونا إلى التسامح والتساهل والترفّع عن المشاكل التي تحدث فيما بين المؤمنين أنفسهم؛ ولابدّ مِن أن يحدث مثل ذلك، ولابدّ من الترفّع عنها، والتساهل فيها.

روى داود بن سرحان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «أربع لا يخلو منهنّ المؤمن أو واحدة منهنّ مؤمن يحسده، وهو أشدُّهن عليه، أومنافق يقفو أثره، أو

ص: 103

عدو يجاهده، أو شيطان يغويه».

وللطواف في نفوسنا مشهدان:

مشهد الطواف من الداخل، ومشهد الطواف من الخارج، ومشهد الطواف في كلّ منهما يختلف عن الآخر.

فاذا أشرفنا على الطواف من الأعلى من سطح البيت الحرام، وجدنا هذا الجمهور الحاشد يدور حول البيت في حركة هادئة، مريحة، متّصلة، مستمرّة، وكأنّ أرض المسجد الحرام تدور بهم في حركة وديعة هادئة؛ وهذا هو مشهد (الطواف) من الخارج، وقراءة لحركة (التوحيد) و (الإخلاص) في التاريخ من بعيد، من أعماق التاريخ.

وللطواف مشهدٌ آخر، وقراءة أخرى من الداخل، عندما ندخل في زحمة الطواف، فيتدافع الطائفون، ونشقّ الطريق حول بيت الله الحرام في زحمة الطائفين ومنافستهم، وأحياناً مضايقاتهم ومشاكساتهم، وهذا مشهد الطواف من الداخل، وكذلك نواجه هذا التدافع والتنافس من الداخل لحركة (التوحيد) و (الإخلاص).

فلا تكاد تخلص حركة (التوحيد) و (الإخلاص) لله- تعالى- في حياتنا، في صفوف المؤمنين الموحّدين والمخلَصين من هذا التزاحم والتنافس الايجابي، والسلبي أحياناً؛ ومع ذلك فإنّ الله- تعالى- يريد منّا أن نحمل عبى ء رسالة (التوحيد) و (الإخلاص) في الحياة في وسط جمهور المؤمنين، وحشود الدعاة إلى الله- تعالى-، ويطلب منّا أن نتقبل نتائج هذا التزاحم والتنافس في العمل كأمر واقع لابدّ من أن يقع، ويدعونا إلى التساهل والتسامح في هذا الأمر، وإلى الترفّع عنه ما أمكن. وهذا هو الدرس الثاني من دروس الطواف.

***

ص:104

ص: 105

المنازل الثلاثة للرحمة في السعي

اشارة

ص:106

ص: 107

في حياة الإنسان ثلاثة منازل لرحمة الله تعالى:

1- الفقر والحاجة.

2- الدعاء والسؤال.

3- السعي والعمل.

وفيما يلي شرح موجز لهذه المنازل:

المنزل الأول: الفقر والحاجة:

وهو أول منازل رحمة الله- تعالى- فالفقر يستنزل رحمة الله حتى من غير أن يعي صاحب الفقر فقره إلى الله، وبين (الفقر إلى الله) و (رحمة الله) علاقة تكوينية، كلّ منهما يطلب الآخر، فالفقر إلى الله يستنزل رحمة الله، ورحمة الله تطلب مواقعَ الحاجة والفقر، وهي سنة عامة في الكون، في كلّ موضع للفقر والغنى، والضعف والقوة؛ فإنّ الضعف يطلب القوة، والقوة تطلب الضعف، والفقر يطلب الغنى، والغنى يطلب الفقر، والجهل يطلب العلم، والعلم يطلب الجهل، والمريض يطلب الطب، كما أنّ الطب يطلب المرض.

وليست حاجة العالِم إلى الجاهل ليعلّمه بأقل من حاجة الجاهل إلى العالم ليتعلّم منه، ولا حاجة الطبيب إلى المريض ليداويه بأقل من حاجة المريض إلى الطبيب ليعالجه، ولاحاجة الأمّ إلى الطفل لتسبغ عليه حنانها وعطفها بأقل من حاجة الطفل إلى الأُمّ لتتولّاه برعايتها وعطفها.

ص: 108

إنّها سنة الله في كل موضع للفقر والغنى، والضعف والقوة، وهي سنة الله- تعالى- في علاقته بفقر عباده وعجزهم وضعفهم وحاجتهم حتى من غير سؤال وطلب ودعاء، ومن غير وعي منهم لحاجتهم وفقرهم.

إنّ هذه العلاقة من أسرار هذا الدين، و من أسرار هذا الكون و قوانينه، و ما لم يفهم الإنسان هذا القانون في الكون، وفي علاقة الإنسان بالله تعالى لا يستطيع أن يدرك طائفة واسعة من معارف هذا الدين وأسراره.

وكم من مريض تماثل للشفاء برحمة الله من غير سؤال (وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (1) وكم من فقير جائع رزقه الله- تعالى-، وأطعمه من جوع من غير سؤال ولا دعاء، وكم من مضطر في لجج البحار، أو تحت الانقاض، أو تحت طائل السيوف أو في وسط الحريق أدركته رحمة الله- تعالى- وانقذته من غير سؤال ولادعاء، وكم من ظمآن بلغ به الظماء مبلغاً استنفذ مقاومته، فأدركته رحمة الله- تعالى- وأروته من غير سؤال ولا طلب؛ وكم من إنسان واجه الأخطار، وكان قاب قوسين منها، وهو يعلم أولا يعلم، فجاءه (ستر الله) فأنقذه منها؛ وكم من إنسان وصل إلى طريق مسدود في حياته ففتح الله- تعالى- عليه ألف طريق وطريق، وكلّ ذلك من غير سؤال ولا طلب ولا دعاء، بل دون أن يعرف صاحبُه الله، فيمن لايعرف الله من خلقه، فضلًا من أن يعرفه فلا يطلب منه، وكم من رضيع تدركه رحمة الله- تعالى- دون أن يطلب من الله، ودون أن يسأل الله تعالى، ويقدر على ذلك (2).


1- الشعراء: 80
2- وهذا لا يعني أن الناس لا يموتون تحت الانقاض في الزلازل، ولا يحترقون في الحرائق، ولا يهلكون في لجج البحار، ولا يموت إنسان من المرض والألم ولا يموت طفل رضيع. فقد صمّم الله تعالى هذا الكون بموجب (الرحمة) و (الحكمة)، فاذا كانت حكمة الله تقتضي وقوع كارثة في إنسان أو حيوان أو نبات، فلا يعني ذلك أن ننفي البعد الآخر من فضل الله- تعالى- وصفاته الحسنى، وهو الرحمة؛ ولهذا الموضوع شرح وبسط ليس هذا محله.

ص: 109

وقد ورد في دعاء الافتتاح: «فكم يا إلهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها».

وورد في دعاء أيام رجب: «يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله، ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة»؛ فإنّ الله تعالى يعطي بموجب هذا الدعاء من لايسأله، ومن لايعرفه من خلقه.

وفي المناجاة الشعبانيّة: «ولكن عفوك قبل علمنا».

إذن الفقر والحاجة من منازل رحمة الله- تعالى-، وحيث يكون الفقر وتكون الحاجة، تجد رحمته تعالى.

وللعارف الروميّ الشهير بيتٌ من الشعر في هذا الباب، أذكر ترجمته:

لا تطلب الماء واطلب الظماء حتّى يتفجّر الماء من كلّ أطرافك وجوانبك.

وقد وردت الإشارة إلى هذه العلاقة بين رحمة الله- تعالى- وحاجة عباده وفقرهم، في مناجاة بليغة ومؤثرة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7، كان يناجي الله تعالى بها في ظلمات الليل في مسجد الكوفة، نورد فيما يلي طرفاً منها:

مولاي يا مولاي، أنت المولى، وأنا العبد، وهل يرحم العبد إلّا المولى؟ مولاي يا مولاي، أنت المالك، و أنا المملوك، و هل يرحم المملوك إلّا المالك؟ مولاي يا مولاي، أنت العزيز، وأنا الذليل، وهل يرحم الذليل إلّا العزيز؟ مولاي يا مولاي، أنت الخالق، و أنا المخلوق، و هل يرحم المخلوق إلّا الخالق؟ مولاي يامولاي، أنت القوي، وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلّا القوي؟ مولاي يا مولاي، أنت الغني، وأنا الفقير، وهل يرحم الفقير إلّا الغني؟ مولاي يامولاي، أنت المعطي، وأنا السائل، وهل يرحم السائل إلّا المعطي؟ مولاي يا مولاي، أنت الحي، وأنا الميت، وهل يرحم الميت إلّا الحي؟

الفقر الواعي والفقر المحجوب عن الله بالأسباب:

ص: 110

ولكن علينا أن نشير هنا: أن هناك نوعين من الفقر؛ أحدهما يستنزل رحمة الله، والآخر يحجب صاحبه عن رحمة الله، أمّا الذي يستنزل رحمة الله فهو «الفقر الواعي» الذي يشعر صاحبه بحاجته وفقره الى الله تعالى، ويربطه بمسبّب الأسباب، دون أن يكون معنى ذلك إسقاط الأسباب عن الحساب.

وهناك الفقير الذي تحجبه الأسباب المادية عن الله تعالى، مسبّب الأسباب، فلا يكاد يشعر بفقره إلى الله بسبب إعتماده على الأسباب المادية، ويتراءى لي أنّ هذه الأسباب هي التي تغنيه وترفع فقره، فيبقى محجوباً عن الله، رغم فقره إلى الله، وهذا هو الفقر الذي يحبس صاحبه عند الأسباب، وتحجبه الأسباب عن الإحساس بفقره وحاجته إلى مسبّب الأسباب.

وليس معنى وعي الحاجة والفقر إلى الله- تعالى- إلغاء الأسباب، والإعراض والانصراف عنها، فهذا ما لا يصح، ولا يجوز، ولا يقول به أحد، حتّى الأشاعرة لايذهبون هذا المذهب المتطرف من الأسباب.

ومع تثبيت هذه الحقيقة نقول: إنّ الفقر الواعي هو الفقر الذي يشعر صاحبه بفقره إلى الله، ويثبّت ويركّز الإحساس بالفقر إلى الله في نفس صاحبه، ولا تعيقه الأسباب عن مسبّب الأسباب.

أمّا الفقر المحجوب، فهو الفقر الذي يحبس صاحبه عند الأسباب، وتحجبه الأسباب عن الإحساس بالحاجة والفقر إلى الله تعالى، مبدأ الأسباب، ومسبّب الأسباب.

والفقر الأوّل هو المقصود من الرواية النبويّة الشريفة: «الفقر فخري»؛ والفقر الثاني هو الذي «كاد أن يكون كفراً».

والفقر الأوّل هو الذي يستنزل رحمة الله، والثاني يحجب صاحبه عن رحمة الله.

وهذا الفقر هو الذي نجده في كلمات أبي الأنبياءِ إبراهيم (ع)، كما يتلو علينا القرآن نبأه: (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* ... الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَ الَّذِي هُوَ

ص: 111

يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ* وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (1).

فلا يريد إبراهيم (ع) في هذا الخطاب أن يلغي الأسباب الطبيعية في الإطعام، والسقي، والشفاء، والموت، والحياة من الحساب، وقد كان (ع) يتعامل مع كل ذلك إلّا أن هذه الأسباب لن تحجبه عن الله- تعالى- مسبّب الأسباب ومبدأ الأسباب، وهذا هو الفرق بين الرؤية التوحيدية إلى الأسباب، وبين الرؤية الأخرى المشوبة بالشرك.

المنزل الثاني: الدعاء والسؤال:

اشارة

يستنزل الدعاء والسؤال من رحمة الله ما لايستنزله الفقر، وذلك أنّ الدعاء فقر وطلب، وكل منهما عامل مستقل في استنزال رحمة الله- تعالى- ولذلك فهو يستنزل من رحمة الله ما لايستنزله الفقر وحده.

وكلما يكون صاحب الدعاء أكثر اضطراراً وفقراً، يكون دعاؤه أقرب إلى الاستجابة، فإنّ الفقر يركّز الطلب، والطلب يعمّق حالة الفقر ويدخله إلى دائرة الوعي.

ولكل (دعوة) (إجابة)

يقول تعالى: (... ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (2).

وهذا قانون عام لا يتخلف، والقرآن الكريم يقرّر هذه الحقيقة بكل وضوح (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).


1- الشعراء: 69- ...- 81
2- المؤمن: 60

ص: 112

فإنّ (المانع) عن استجابة الدعاء، إمّا أن يكون من ناحية المسؤول، أو من ناحية السائل، أو من ناحية السؤال، وليس من رابع، ولا يمكن أن يكون هناك مانع من ناحية المسؤول فإنّ الله- تعالى- مقتدر كريم، لا تنقص خزائنه، ولاينفد ملكه.

(... وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (1).

(... وَ الأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)(2) .

(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) (3).

(وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الأَرْضِ) (4).

ولا بخل ولا شحّ في ساحته، ولا حدّ لجوده وكرمه.

(... رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً ...)(5) .

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ...)(6) .

(... وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (7).

(ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ...) (8).

فلا نفاد لملك الله ورحمته وسلطانه حتى يعيق رحمته، ولا بخل ولا شحّ في ساحته حتى يمنعه من الجود والعطاء.

فليس في المسؤول- سبحانه وتعالى- ما يمنع من الاستجابة لدعاء عباده كلما


1- البقرة: 117
2- الزمر: 67
3- آل عمران: 165
4- المنافقون: 7
5- غافر: 7
6- الأنعام: 147
7- الإسراء: 20
8- فاطر: 2

ص: 113

دعوه وطلبوا منه شيئاً، وهو معنى قوله تعالى (ادْعُونِى أستجبْ لكُمْ) من دون قيد ولا شرط، هذا من ناحية المسؤول.

وأمّا من ناحية السائل فقد تضرّه الاستجابة، وهو لا يعلم، و الله تعالى يعلم، فلا يستجيب لدعائه، ولكن يعوّضه عن ذلك بغيره بقضاء سائر حاجاته وغفران ذنوبه.

و قد يضرّه التعجيل بقضاء حاجته والاستجابة لدعائه، و يعلم الله- تعالى- أن تأجيل الاستجابة أصلح لحاله.

وقد يكون المانع عن الإجابة نوع السؤال والحاجة الطلب، وذلك عندما يطلب العبد مايلغي نظام التكوين في الكون، أو يطلب مالايحل ولايصح في نظام التشريع في الدين ... وهذه هي الحالة الثالثة.

التبديل، والتأجيل، والتعجيل:

فإذا كان المانع عن الإجابة من ناحية السائل، إذا دعى الله تعالى بما لايصلح له ويضره، وهولايعلم بذلك، والله يعلم، فإنّ الله تعالى لايلغي الإجابة بشكل مطلق، ولكن يبدله بمايصلح له، من إجابة حاجاته الصالحة، أو بمايشاء له من نعمه وفضله، أو بغفران ذنوبه، وهذا هو (التبديل).

وقد يقدّر الله لعبده الإجابة، ولكن بتأجيل وتأخير، لمصلحة يراها الله تعالى لعبده، ولايراها العبد، وهذا هو (التأجيل).

ففي دعاء الافتتاح:

«فصرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً، لاخائفاً و لاوجلًا، مدلًا عليك فيما قصدتُ فيه اليك، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عني هو

ص: 114

خير لي لعلمك بعاقبة الأمور».

وقد يؤخر الله- تعالى- إجابة دعاء عبده، كي يطول قيامه وتضرعه بين يديه- تعالى- والله يحبّ أن يطول وقوف عبده وتضرعه بين يديه، ففي الحديث القدسي: «يا موسى! إني لست بغافل عن خلقي، ولكني أحبّ أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء من عبادي»(1) .

وعن الصادق (ع): «إنّ العبد ليدعو فيقول الله- عزّ وجلّ- للملكين قد استجبت له، ولكن احبسوه بحاجته، فإني أحبّ أن أسمع صوته، وإنّ العبد ليدعو، فيقول الله- تبارك وتعالى- عجّلوا له حاجته فإني أبغض صوته»(2) .

وقد يسأل العبد ما لايصلح ولا يصح أن يكون من تغيير في نظام التكوين والخلق، كما لو طلب من الله أن يجعل له الشتاء حارّاً، أو الصيف بارداً، أو يدفع عنه الموت إلى قيام الساعة، أو طلب ما لايحل له في نظام التشريع، فإنّ الله لايستجيب لدعائه، لأنه طلب ما لايكون أو ما لايحل.

وفي هذا وغير هذه الحالات يستجيب الله لدعاء عبده البتة، ولما ذا لايستجيب (وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الأَرْضِ)، (وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)، و حتمية الاستجابة هنا نابعة من حكم العقل القطعي، إذا كان السائل محتاجاً وفقيراً ومضطراً إلى المسؤول، والمسؤول قادر على إجابة طلبه، ولا بخل ولاشحّ في خلقه.

والقرآن الكريم يؤكد هذه العلاقة الحتمية(3) يقول تعالى:

1- (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ ...) (4).


1- عدة الداعي
2- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 21، ح 3
3- ليس معنى القول بحتمية هذه العلاقة فرض أمر على الله- تعالى- فهو- سبحانه- قد كتب على نفسه الرحمة فقل سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسهِ الرحمةَ .... الأنعام: 54
4- النمل: 62

ص: 115

فلا يحتاج المضطر في الإجابة لاضطراره، وكشف السوء عنه إلّا إلى الدعاء (إذا دعاه)، فإذا دعاه سبحانه، استجاب لدعائه، وكشف عنه السوء.

2- (وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (1).

والآية الكريمة واضحة وصريحة في العلاقة بين الدعاء والاستجابة (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

3- (... أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ...) (2).

والعلاقة القطعية بين الدعاء والإجابة واضحة وصريحة في هذه الطائفة من آيات كتاب الله، وهي تدفع كلّ شك وريب من النفس في قطعية الإجابة من الله لكل دعاء، ما لم تكن الإجابة مضرة بالداعي أو بالنظام العام للتكوين والتشريع، والاستجابة في هذه الآيات غير مشروطة ولا معلّقة بشي ء.

وأمّا الشروط التي سوف نتحدث عنها؛ ففي الحقيقة ترجع إلى تحقيق الدعاء وتثبيته لمصلحة الداعي نفسه، ومن دونها يضعف الدعاء أو ينتفي.

إذن فإنّ العلاقة بين الدعاء والاستجابة علاقةٌ حتمية لا يمكن أن تتخلف، وعلاقة مطلقة لا يمكن أن تتعلق بشرط، إلّا أن يكون الشرط مما يؤكد ويثبت حالة الدعاء نحو قوله تعالى: (... إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ ...).

وفي أحاديث رسول الله (ص) و أهل بيته (عليهم السلام) ما يؤكّد ويعمّق هذه العلاقة بين الدعاء والإجابة.

ففي الحديث القدسي: «يا عيسى ... إني أسمع السامعين، أستجيب للداعين


1- المؤمن: 60
2- البقرة: 186

ص: 116

إذا دعوني»(1) .

وعن رسول الله (ص): «ما من عبد يسلك وادياً فيبسط كفّيه، فيذكر الله ويدعو إلّا ملأ الله ذلك الوادي حسنات فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر»(2) .

وعن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث: «لو أنّ عبداً سدّ فاه، ولم يسأل لم يعط شيئاً، فسل تعط» (3).

وعن ميسر بن عبد العزيز عن أبي عبد الله الصادق (ع): «يا ميسر! إنّه ليس من باب يقرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه»(4) .

وعن أمير المؤمنين (ع): «متى تكثر قرع الباب يفتح لك»(5) .

وفي وصايا رسول الله (ص) لعليّ (ع):

«يا عليّ! .. أوصيك بالدعاء فإنّ معه الإجابة»(6) .

وعن الصادق (ع):

«إذا ألهم أحدكم الدعاء عند البلاء فاعلموا أنّ البلاء قصير» (7).

وعن الصادق (ع):

«لا والله، لا يلحّ عبد على الله- عزّ وجلّ- إلّا استجاب له» (8).

والنصوصُ الإسلاميّة تؤكد هذه الحتمية في الإطلاق، في العلاقة بين الدعاء والإجابة، وتبين بشكل واضح وصريح، أنّ الله- تعالى- يستحيي أن يرد دعاء عبده إذا دعاه.


1- أصول الكافي
2- ثواب الأعمال: 137
3- وسائل الشيعة، 1084: 4، ح 8606
4- المصدر السابق، ح 8611
5- المصدر السابق، 1085: 4، ح 8613
6- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 2، ح 18
7- اصول الكافي، كتاب الدعاء، باب الإلحاح بالدعاء، ح 5
8- ارشاد القلوب للديلمي.

ص: 117

ففي الحديث القدسي:

«ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أردّه، ويعصيني ولايستحيي مني»(1) .

وعن الصادق (ع):

«ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار إلّا استحيى الله- عزّ وجلّ- أن يردها»(2) .

وفي الحديث القدسي:

«مَن توضأ وصلّى ودعاني فلم أجبه فيما يسأل عن أمر دينه ودنياه فقد جفوته، ولستُ برب جاف»(3) .

وعن أمير المؤمنين (ع): «ما كان الله ليفتح باب الدعاء، ويغلق عليه باب الإجابة»(4) .

وعن أمير المؤمنين (ع) أيضاً: «مَن أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة» (5).

وفي النصّين الأخيرين التفاتة ذات مغزى ونكهة علوية؛ فإنّ الله- تعالى- كريم و وفيّ، فإذا فتح باب الدعاء، فلا يمكن أن يغلق على العبد باب الإجابة، وإذا رزق العبد توفيق الدعاء، فلا يمكن أن يحرمه الإجابة ..

عن رسول الله (ص): «ما فتح لأحد باب دعاء إلّا فتح الله له فيه باب اجابة، فإذا فتح لأحدكم باب دعاء فليجهد فإنّ الله لايمل» (6).

وهذا هو المنزل الثاني من منازل رحمة الله. أللهمّ سمعنا، وشهدنا، وآمنا.


1- عدة الداعي، وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 14، ح 1
2- ارشاد القلوب للديلمي.
3- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 2، ح 12- وسائل الشيعة، 1086: 4، ح 8621
4- المصدر السابق، 1086: 4، أبواب الدعاء، باب 2، ح 8622
5- المصدر السابق.
6- وسائل الشيعة، 1087: 4

ص: 118

المنزل الثالث: السعي والعمل

اشارة

قد جعل الله تعالى (السعي) و (العمل) من منازل رحمته للدنيا والآخرة.

يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ...) (1).

ويقول تعالى: (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ)(2) .

فمن عمل صالحاً آتاه الله حياةً طيبةً، وأفلحه.

فإذا كان الإنسان يبتغي دنيا أو آخرة فعليه أن يسعى إليها ويعمل لها.

وقد كان علي (ع) يقول: «لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل»(3) .

ولا يبلغ الإنسان منازل المؤمنين في الجنة إلّا بالعمل.

(وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) (4).

ومهما كان العمل قليلًا فإنّ الله- تعالى- يحصيه ويثيبه عليه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (5).

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ...)(6) .

فالعمل إذن، أحد أعظم منازل الرحمة، ولا ينال الإنسان مراتب من الخير والرحمة والتوفيق والرزق من عند الله إلّا بالعمل.

ولا يبلغ الإنسان ما يطلبه من الخير بالتمني والترجي؛ وقد روي عن الإمام


1- النحل: 97
2- القصص: 67
3- نهج البلاغة: حكمة 15
4- النساء: 124
5- الزلزلة: 7
6- آل عمران: 30

ص: 119

الصادق (ع) إنه كان يقول: «أبلغ شيعتنا، أنه لا ينال ما عند الله إلّا بالعمل».

وهذه ثالثة منازل رحمة الله- تعالى-.

وفي قصة أبي الأنبياء إبراهيم (ع) نلتقي مشهداً فريداً أو نادراً من نوعه، في اجتماع المنازل الثلاثة للرحمة في موضع واحد، في قصة واحدة، وذلك عندما أودع أبو الأنبياء ابراهيم (ع) زوجتَه هاجر في واد غير ذي زرع، وترك معها ابنهما إسماعيل (ع) وهو يومئذ طفل رضيع.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (1).

وذهب إبراهيم خليل الله بعد ذلك إلى شأنه كما أمره الله تعالى، وترك هذه المرأة والطفل الرضيع لوحدهما في هذا الوادي القفر بأمر الله تعالى فنفد ما كان لديهما من الماء، وعطش الطفل، وغلب عليه الظمأ وأخذت المرأة تبحث عن الماء فلم تجد له أثراً، وأخذ الطفل يصرخ ويضرب بيديه ورجليه، والأم تهرول من هنا وهناك فتصعد على الصفا تارةً تنظر إلى الأفق البعيد بحثاً عن الماء ثم تهبط، وتهرول باحثة عن الماء إلى جانب جبل المروة، وتدعو الله تعالى أن يرزقهما الماء في هذا الوادي القفر، والطفل يصرخ ويبكي ويضرب بيديه ورجليه عند البيت الحرام.

ففجّر الله تعالى الأرض ماءاً تحت قدمي الطفل، فأسرعت الأم إلى الماءِ، لتروي طفلها الرضيع، ولتلملم الماء لئلا يذهب هدراً، فتقول للماء وهي تصنع له حوضاً يجمعه وتقول للماء: زم .. زم ... وإليك الرواية التاريخية لهذه القصة:


1- ابراهيم: 37

ص: 120

الرواية التاريخية لقصة السعي الأول:

تقول الرواية التاريخية: «إنّ الله تعالى أمر عبده وخليله إبراهيم أن يخرج بزوجته هاجر (أمّ إسماعيل) من الشام إلى صحراء الجزيرة، حيث يقع الحرم، فلما وافى إبراهيم منطقة الحرم، حيث تقع مكة اليوم نزل فيها فوجد شجراً، فألقت ها جر كساءاً كان معها تستظل تحته فلما سرّحهم إبراهيم و وضعهم، و أراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا إبراهيم لِمَ تدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال إبراهيم (ع): الّذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم، ثمّ انصرف عنهم، فلمّا بلغ (كدًى) وهو جبل بذي طوى، التفت إليهم إبراهيم (ع) فقال:

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

ثمّ مضى وبقيت هاجر، فلمّا ارتفع النهار عطش اسماعيل وطلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع المسعى فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب إسماعيل عنها فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي وظنّت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل، ثمّ لمع لها السراب في ناحية الصفا فهبطت إلى الوادي تطلب الماء، فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت، حتّى بلغت الصفا، فنظرت حتّى فعلت ذلك سبع مرّات، فلمّا كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى اسماعيل، وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فَعَدَتْ حتّى جمعت حوله رملًا فإنّه كان سائلًا فزّمته بما جعلته حوله فلذلك سمّيت زمزم».

ص: 121

أسرار الموقف:

إنّ هذا المشهد العجيب استنزل يومذاك رحمة الله تعالى، ففجر الله لهما زمزم في واد غير ذي زرع، وجعلها مصدراً ومبدءاً لكثير من البركات على هذه الأرض المباركة، وجعل هذا المشهد جزءاً من أعمال الحجّ، وثبّته الله تعالى في واحد من أشرف فرائضه، فما هو السرّ الكامن في هذا المشهد؟ ولماذا هذا الاهتمام به في أصل الدين، وتثبيته في الحج؟ وما هو السبب المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة الله تعالى بقوة في هذا المشهد، وجعلها مبدءاً لبركات كثيرة في حياة الأجيال المتعاقبة من الموحّدين؟

في ضيافة الرحمن ؛ ؛ ص121

بد من أن يكون هذا المشهد ينطوي على سرّ خاص استدعى نزول رحمته تعالى في ذاك الوادي القفر، واستدعى دوام هذه الرحمة وثباتها، وجعل منها مصدراً ومبدءاً لكثير من البركات، واستدعى أن يُثَبِّتَهَا الله تعالى في حج أجيال الموحدين عند بيته الحرام.

إنني أعتقد،- والله تعالى أعلم بأسرار هذا المشهد- أنّ هذا المشهد النادر كان يجمع يومئذ بين ثلاثة منازل من منازل رحمة الله تعالى كلّ منها يستنزل رحمته تعالى.

وأول هذه المنازل الحاجة، وهي الظمأ الذي أصاب الطفل وأضرَّ به، وهذا واحد من منازل رحمة الله تعالى، ومن أقرب المنازل إلى رحمته.

ولذلك نرى أنّ الأطفال الرضّع إذا أضرّ بهم ألم، أو جوع، أو ظمأ، أو برد، أو حرّ، كانوا أقرب إلى رحمة الله تعالى من الكبار الذين يطيقون ذلك، لأن الألم، والجوع، والظمأ يضرّ بهم أكثر من الكبار.

وقد ورد في الدعاء: (أللهمّ أعطني لفقري)، والفقر إلى الله لوحده يستنزل رحمته- تعالى-، وكلما كان الفقر إلى الله أعظم كان أدعى لنزول رحمة الله،

ص: 122

ويقرب الإنسان منها، سواء كان الإنسان يعي فقره إلى الله أم لا يعي، وإن كان وعي الفقر إلى الله يضاعف من قيمته وقدرته في استنزال رحمته- تعالى-.

ولكن بشرط ألّا يحرّف الإنسان الفقر عن موضعه، فيتصوّر أنه من الفقر إلى المال أو إلى حطام الدنيا، أو إلى بعض عباد الله بدل أن يعيه على واقعه وهو الفقر إلى الله. وشتّان بين هذا الفقر وذاك الفقر. والذي يستنزل رحمة الله- تعالى- هو الفقر إلى الله، فإذا حرّف الانسان هذا الفقر من الفقر إلى الله، إلى الفقر إلى عباد الله، فقد الفقرُ قيمتَه في استنزال رحمته- تعالى-، وأكثر فقر الناس من هذا النوع.

وفي هذا المشهد كان صراخ الطفل وضجيجه وبكاؤه من شدّة العطش مشهداً نافذاً مؤثراً في استنزال رحمة الله تعالى.

كما أنه ليس في مشاهد الحاجة والفاقة إلى الله مشهد مؤثر ورقيق يستنزل رحمته- تعالى- أكثر من مشهد طفل يتلظى من العطش، ولا تجد له امّه إلى الماء سبيلًا.

والمنزل الثاني لرحمة الله في هذا المشهد هو (السعي)، وهو شرط للرزق، و لارزق من دون سعي، وقد جعل الله تعالى السعي والحركة في حياة الإنسان مفتاحاً للرزق.

وإذا كان عامل الفقر يُكْسِب الإنسان حالة الاضطرار والفاقة والحاجة. فإنّ عامل السعي يُكْسِب الإنسان العزم والقوّة والإرادة، والحركة والنشاط، وعلى قدر حركة الإنسان وسعيه وعزمه يرزقه الله- تعالى- من رحمته.

و قد تحركت أمّ إسماعيل هاجر (س)- عندما نفد عندها الماء، وغلب الظمأ على إسماعيل (ع)- للبحث عن الماء، وسعت تطلبه، تصعد إلى الصفا مرّة، تنظر في الأفق البعيد باحثةً عن الماء، وتنزل من الصفا وتتّجه إلى المروة، تارةً أخرى، لتصعد عليه وتنظر إلى الأفق البعيد تبحث عن الماء، ورغم أنها إستعرضت في

ص: 123

هذه الحركة كلّ الأفق من على الصفا والمروة فلم تجد ماءاً لم تيأس، وأعادت هذه الحركة، والصعود والنزول، والهرولة من الصفا إلى المروة وبالعكس سبع مرات، ولولا أملها و رجاؤها في رحمة الله، لانقطع سعيها في الشوط الأوّل، ولكن الأمل والرجاء الذين كانا يعمران قلبها كانا يدعوانها كلّ مرة إلى إعادة السعي مرة أخرى، حتى فرّج الله عنهما وفجّر زمزم تحت قدمي إسماعيل، فإنّ الأمل هنا في الله، وليس في جهدها في البحث عن الماء، ولو كان أملها في جهدها في البحث عن الماء لانقطع أملها في المرة الأولى أو الثانية.

وقد جعل الله- تعالى- هذا السعي وهذه الحركة شرطاً للرزق، ونزول رحمته على الإنسان، والله تعالى يرزق عباده، وينزل عليهم رحمته، ولكنه تعالى شاء أن يكون السعي والحركة مفتاحاً لرزقه ورحمته.

والمنزل الثالث لرحمة الله تعالى في هذا المشهد: هو دعاء أمّ اسماعيل، ورجاؤها وثقتها بالله، وانقطاعها إلى الله، واضطرارها إليه- عزّ شأنه- في طلب الماء في هذا الوادي القفر غير ذي زرع، وكلّما انقطع الإنسان في دعائه إلى الله أكثر كان أقرب إلى رحمة الله.

ولست أدري في أية حالة من حالات الانقطاع إلى الله، كانت هذه المرأة الصالحة في تلك اللحظات في الوادي غير ذي زرع، وليس من انسان أو حيوان حولها، ووحيدها الرضيع يتلظى عطشاً، ويكاد أن يلفظ آخر أنفاسه.

لقد انقطعت المرأة إلى الله في تلك اللحظة انقطاعاً ضجّت له ملائكةُ الله بالدعاء، وضموا أصواتهم إلى صوتها، ودعاءهم إلى دعائها.

ولو أنّ الناس كلهم انقطعوا إلى الله بمثل هذا الانقطاع، لأكلوا من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، وعمّتهم رحمة الله تعالى.

عليكِ سلام الله يا امنا، أمّ اسماعيل! من أبنائك الذين آتاهم الله النور والهدى

ص: 124

والإيمان والنبوة، ومن المهتدين بهداهم ونورهم ... لولا ذلك الانفراد في ذلك الواد القفر غير ذي الزرع في هجير الحجاز، ولولا تلك المعاناة والمحنة لم تنقطعي إلى الله- عزّ وجلّ- بمثل هذا الانقطاع، في ذلك الموقف العسير على جبلي الصفا والمروة، ولولا ذلك الانقطاع إلى الله، لم تنزل رحمة الله تعالى عليكما، ولولا تلك الرحمة لم يكن انقطاعك إلى الله وسعيك بين الصفا والمروة من شعائر الله في الحجّ.

(إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (1).

لقد ثبّت الله- تعالى- يا أمّنا؛ انقطاعك إليه في ذلك الهجير، وسعيك إلى الماء، وصراخ صغيرك إسماعيل في ذاكرة التاريخ، ليعرف الأجيال من بعدك كيف يستنزلون رحمة الله، وكيف يتعرضون لرحمة الله.

إنّ رحمة الله- تعالى- واسعة لا شحّ فيها ولا نقص، ولا عجز، ولكن الناس لايعرفون مواضع هذه الرحمة ومنازلها، ولا يحسنون التعرّض لها والاستفادة منها.

ومنك تعلمنا يا أمّنا! كيف نطلب منازل رحمة الله، وكيف نتعرض لرحمة الله، ومنك يا أمنا أخذنا مفاتيح الرحمة.

وعذراً يا أمنا! إذا كنّا- نحن أبناؤك- لم نحفظ هذه المفاتيح التي سلّمتيها إلى إسماعيل من بعدك، وتوارثها أبناء إسماعيل من إسماعيل، وتوارثناها- نحن- من ابنك محمد المصطفى رسول الله (ص) فضيعناها فيما ضيعنا من تراث الأنبياء و مواريثهم.

لقد تعلّمنا من أبينا إبراهيم (ع) كيف نوحّد الله، وتعلمنا من أمّنا هاجر (س) كيف نسأل الله، وفي متاهات الهوى والطاغوت ضيعنا هذا وذاك.

فأعنّا اللهمّ! على تحصيل ما ضيعناه من تراث أبينا وأمنا (إبراهيم وهاجر) (عليهما السلام) واجعلنا من أسرتهم، ولا تطردنا ربنا! من هذا البيت من آل إبراهيم وآل عمران.


1- البقرة: 158

ص: 125

(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(1) .

(رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (2).

لقد أخذت أمُّنا (أمّ إسماعيل)- يومذاك في ذلك الوادي القفر، وفي رمضاء هجيز ذلك الوادي- بأسباب الخير كلّها ... وذلك هو السعي والدعاء والفقر إلى الله.

لقد كانت أمّنا تسعى إلى الماء، وتشرف على الوادي تارة من على الصفا وأخرى من على المروة باحثة عن الماء، والله- تعالى- يحبّ من عباده الحركة والسعي والعمل، وجعل ذلك من أهم شروط الرزق؛ ولكنها في سعيها كانت منقطعة إلى الله، وتدعوه- تعالى-، وتسأله في حالة من الانقطاع، يقلّ نظيرها في تاريخ الإنسان، فلا السعي والتحرك، كانا يحجبانها، ويقطعانها عنه- تعالى-، ولا الانقطاع إلى الله كان يعطل فيها حالة الحركة، والسعي إلى الماء بأقصى ماتستطيعه امرأة في ذلك الوادي القفر، وفي ذلك الهجير ... في أشواط سبعة من الصفا إلى المروة ومن المروة إلى الصفا.

وإننا اليوم في شعائر حجّنا، نسعى هذه الأشواط بين هذين الجبلين، من غير معاناة، ولا عذاب ولا همّ، ولا قلق، فنكدح ونتعب ويرهقنا هذا السعي.

وقد قامت أمُّنا هاجر بهذا السعي كلّه في ذلك الوادي القفر، وفي رمضاء ذلك الهجير، وهي ظمأى قد استنفذ الظمأ حولها وقوتها، ورضيعها الصغير يكاد يلفظ آخر أنفاسه ... ولكنها مع ذلك قامت بهذا السعي إلى الماء بقوّة وهمّة


1- آل عمران: 33- 34
2- البقرة: 128

ص: 126

وعزم وإرادة.

ولم يمنعها هذا السعي- ولو للحظة واحدة- عن الانقطاع إلى الله، ولم يحجبها ولو للحظة واحدة عنه تعالى، فقد كان سعيها في إمتداد إنقطاعها إلى الله ودعائها، ودعاؤها مبدء سعيها وحركتها إلى الماء، ومَن منّا يقدر على ذلك؟

والملائكة يومئذ ينظرون إليها، ويعجبون منها، كيف استطاعت أن تنقطع إلى الله هذا الانقطاع؟ وكيف تمكنت أن تسعى إلى الماء، وهي مثقلة بالمتاعب والمحن هذا السعي؟ وكيف استطاعت أن تجمع بين السعي والانقطاع إلى الله بمثل هذا الجمع؟

فيضجون إلى الله- تعالى- أن يستجيب لدعائها وسعيها، وأن يستنزل سعيها ودعاؤها رحمةَ الله- تعالى-، وتقرب رحمة الله منها، حتى تكاد أن تنطبق السماء على الأرض.

لقد صعد يومئذ عمود من الدعاء، والسعي من الأرض إلى السماء، و نزل عمود من الرحمة من السماء إلى الأرض، واتّصلت الأرض بالسماء، والسماء بالأرض، وحشود الملائكة يشهدون هذا المشهد الفريدالذي لم يشهده يومئذ غيره تعالى وغيرها وغيرهم، ويضجون إلى الله تعالى، ويتضرعون أن يستجيب لدعائها وسعيها، فيحدث ما ليس بالبال ولا الخيال، وتنفجر الأرض تحت أقدام الرضيع ماءً بارداً زلالًا شفافاً هنيئاً مباركاً.

وسبحان الله، والحمد لله، لقد استجاب الله لسعيها ودعائها، ولكن لاحيث سعت، وإنّما تحت أقدام الرضيع، الذي كان يضرب بيديه ورجليه ظمأً يومذاك، ليعلمها الله أنه تعالى هو وحده الذي رزقها هذا البارد العذب، في هذه الرمضاء، وفي هذا الهجير، وليست هي التي حققت ذلك بسعيها وحركتها ... وإن كان لابد لها

ص: 127

من أن تسعى، وتتحرك ليرزقها الله تعالى زمزم.

ففجّر الله (زمزم) تحت أقدام الرضيع، وأقام الله- تعالى- في ذلك الوادي بيته المحرم، وبارك في زمزم، وجعل منه سقاية الحاج مدى الأجيال، وثبّت الله هذا السعي والدعاء في ذاكرة التاريخ، وجعل منه شعيرة من شعائر الحج، يحذو فيها حشود الحجاج كلّ عام حذوها، ويحيّون فيها من بُعد أمّهم هاجر وأبويهم إبراهيم وإسماعيل.

لقد اجتمعت في هذا الوادي- يومذاك- ثلاثة أسباب من أسباب نزول رحمة الله تعالى: الفقر والسعي والدعاء ...

فقر، في أقصى درجات الضعف والفاقة، وسعي، في قوة وحزم وعزم، ودعاء في تضرع وانقطاع واضطرار.

وفي الحجّ نحيي نحن كلّ عام هذا المشهد، لنتعلم من أمّنا أمّ اسماعيل (س) كيف نطلب رحمة الله- تعالى-؟ وكيف نستنزل فضله ورحمته؟ وكيف نغرف من رحمته ونتعرض لها، ونتعلّم من أبينا إبراهيم كيف نتوكل على الله ونفوض أمورنا إليه.

فسلام الله على أبنيا إبراهيم وأمنا هاجر، ورضوان الله ورحمته عليهما.

***

ص:128

ص: 129

الرحمة الهابطة على عرفة

اشارة

ص:130

ص: 131

عرفة روح الحج

يتميز عرفة من بين سائر أعمال الحج امتيازاً واضحاً.

وقد روي عن رسول الله (ص): (الحج عرفة) (1) ومعنى الحديث بلسان الفقه: إنّ عرفة من أركان الحج، يبطل الحج بترك مسمى الوقوف فيها عمداً، وعلى من تركه عمداً، من غير عذر، أن يعيد الحج ...

و معنى الحديث بلسان العرفان: أنّ عرفة روح الحج، وكل ما يسبقه من أعمال ومناسك، إنما شُرِّع لإعداد الحاج لحضور عرفة، على مائدة الرحمة الإلهية، وما يلحق عرفة من مناسك وأعمال يأتي في امتداد عرفة.

عرفة يوم الاعتراف والمعرفة

في عرفة يتجرّد الناس عن كل غرورهم وخيلائهم، ويعترفون لله تعالى بذنوبهم وآثامهم، ويسألون الله تعالى أن يهبهم معرفة مناسكهم (وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(2) يوم عرفة، إذن، يوم اعتراف ومعرفة.


1- مستدرك وسائل الشيعة، الباب 18 من أبواب إحرام الحج، والحدائق الناضرة، 15: 367، وسنن البيهقي، 216: 15، والجامع الصغير 1: 150، ومسند أحمد بن حنبل 38: 222، وسنن النسائي 2: 424 و 432 و 463، والمستدرك على الصحيحين 4: 248 و 6: 14
2- البقرة: 128

ص: 132

و لا فرق بين الأنبياء: وعامة النّاس، في الاعتراف والمعرفة في هذا اليوم المبارك، إلّا أنّ الأنبياء: ليست لهم ذنوب يؤاخذهم الله تعالى عليها، وهم معصومون، منزهون عنها، ولكنهم يعترفون لله تعالى بما ارتكبوا من الغفلات والتقصير، وما كان ينبغي لهم ومثلهم، أن يتنزهوا ويترفعوا عنها، ثم يسألون الله تعالى أن يلهمهم ويعلّمهم مناسكهم، ليس بوجهها الفقهي فقط، وإنما بما تحمل من أسرار المعرفة والتوحيد والعبودية.

عن فضالة بن أيّوب، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله (ع): «إنّ إبراهيم (ع) أتاه جبرئيل (ع) عند زوال الشمس من يوم التروية، فقال: يا إبراهيم، إرتو من الماء لك ولأهلك، فسميّت التروية لذلك ... حتّى إذا بزغت الشمس خرج إلى عرفات، فلمّا زالت الشمس، مضى إلى الموقف، فقال (جبرئيل): يا إبراهيم، إعترف بذنبك، وأعرف مناسكك، ولذلك سميت عرفة»(1) .

عن ابن أبي عمير، عن معاوية عن عمار، قال: سألت أباعبدالله (ع) عن عرفات، لم سميت عرفات؟ فقال (ع): إنّ جبرئيل (ع) خرج بإبراهيم (ع) يوم عرفة، فلما زالت الشمس قال له جبرئيل: يا إبراهيم إعترف بذنبك (2).

فإذا كان الأنبياء: يعترفون لله، وهم معصومون منزهون عن المعاصي والآثام، فأحرى بعامة الناس أن يعترفوا لله تعالى في هذا اليوم، وفي هذا الوادي بذنوبهم، ويبثوا بين يدي الله تعالى ذنوبهم وآثامهم، معترفين بجهلهم وظلمهم لأنفسهم، راجين من الله أن يغفر لهم بكرمه وعفوه ما ارتكبوه بجهلهم وطيشهم، طالبين من الله تعالى أن يرزقهم الوعي والمعرفة بمناسكهم وعباداتهم، ويرزقهم المعرفة، والتوحيد، والتقوى، والطاعة.


1- بحارالأنوار 12: 125
2- المصدر السابق، 108

ص: 133

عرفة من منازل الدعاء والمغفرة

أبرز خصال عرفة أنها من منازل (الدعاء والاستجابة) و (الاستغفار والمغفرة)، فيها يستجاب الدعاء، وتغفر الذنوب وقد استفاضت الروايات بذلك.

عن أبي الحسن الرضا (ع): «ما وقف أحد بتلك الجبال (وادي عرفة) إلّا استجيب له»(1) .

و عن الرضا (ع) قال: «كان أبوجعفر (الباقر (ع)) يقول: ما من برّ ولا فاجر يقف بجبال عرفات، فيدعو الله إلّا استجاب الله له»(2).

عرفة من منازل الرحمة

رحمة الله تعالى تفيض في كل مكان وزمان، ولايخلو منها مكان ولا زمان، ولكن لرحمة الله تعالى منازل خاصة، تصب فيها رحمة الله تعالى من غيرحساب. ومن هذه المنازل منازل مكانيّة، ومنها منازل زمانية، ومنها منازل نفسية، ومنها منازل اجتماعية، ومنازل أخرى.

فمن المنازل المكانية وادي عرفة بعد الزوال من يوم عرفة، وأما في غير هذا الوقت، فهو واد كسائر الوديان، فإذا حلّ الزوال من يوم عرفة، نزل على هذا الوادي من رحمة الله ما لايعرف حجمها ووزنها إلّا الله، ومن المنازل المكانيّة المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وحرم أهل البيت: في البقيع في الحجاز، والمسجد الأقصى في فلسطين، والحائر الحسيني ومسجد الكوفة في العراق.

و من منازل الرحمة الزمانية ليلة الجمعة، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر التي يقول عنها الله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ) ويوم عرفة


1- المصدر نفسه، 99: 261 وعدة الداعي لابن فهد الحلي: 70
2- بحارالأنوار، 251: 99؛ وقرب الاسناد، 166

ص: 134

بعد الزوال.

و من منازل الرحمة النفسية، حالة انكسار القلب، فإنّ القلب في حالة الانكسار أقرب شي ء إلى الله، وقد ورد في الحديث: «إنّ الله في القلوب المنكسرة»، ومن هذه المنازل حالة الاضطرار، فإن الإنسان في حالة الاضطرار قريب من الله تعالى ... يقول تعالى: (أمَّنْ يجُيِبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ).

ومن منازل الرحمة تجمّع المؤمنين للدعاء والصلاة، وكلما كان اجتماع المؤمنين أعظم، كان أقرب إلى رحمة الله ... ومن ذلك تجمّع المسلمين يوم عرفة للدعاء والاستغفار، ومن ذلك اجتماع المسلمين لصلاة الجمعة والجماعة، فإنهما من منازل رحمة الله.

و وادي عرفة بعد زوال يوم عرفة من أعظم منازل رحمة الله على وجه الأرض.

و قد روي عن رسول الله (ص): «إن لله باباً في السماء يقال له: باب الرحمة، وباب التوبة، وباب الحاجات، وباب التفضّل، وباب الإحسان، وباب الجود، وباب الكرم، وباب العفو، ولا يجتمع بعرفات أحد إلّا استأهل من الله في ذلك الوقف هذه الخصال ... ولله رحمة ينزلها على أهل عرفات، فإذا انصرفوا، أشهد الله ملائكته بعتق أهل عرفات من النار، وأوجب الله تعالى لهم الجنة، ونادى منادٍ انصرفوا مغفورين، فقد أرضيتموني، رضيت عنكم»(1)

و اجتماع المسلمين في وادي عرفة من أعظم اجتماعات المسلمين، وأكثرها بركة، وكلّ شي ء في هذا الوادي يستنزل يومئذ رحمة الله تعالى؛ (يوم عرفة، ووادي عرفة، واجتماع المسلمين العظيم للدعاء والصلاة، وتجردهم عن ملابسهم وإقبالهم على الله بالتذلل، والانكسار، والاستغفار) ... كل ذلك يستنزل رحمة الله،


1- أمالي الصدوق: 18؛ وبحارالأنوار 99: 249؛ ووسائل الشيعة 13: 550، ط آل البيت

ص: 135

وتهبط الرحمة الإلهية يومئذ بدون حساب على وادي عرفة، إلّا أن الناس ينالون من هذه الرحمة النازلة، بقدر أوعية نفوسهم.

إنما ينال كل إنسان من الرحمة في عرفة على قدر وعاء نفسه

تفيض رحمة الله على عرفة من غير حساب، ولسنا نستطيع أن نتصور بحواسنا المحدودة، الرحمة الهابطة على عرفة، ولكن كلّ واحد منا ينال من هذه الرحمة حسب وعاء نفسه ... فمن اتسع وعاء نفسه يأخذ منها الكثير، ومن يضيق وعاء نفسه يأخذ القليل على قدر ما يسعه وعاؤه، وأوعية النفوس مختلفة، فمن الناس من يسع وعاء نفسه ما تتسع له أرض عرفة وسماؤها، ومن الناس من يتسع لما دون ذلك، ومراتبها لاتحصى.

واختلاف أوعية الناس في النيل من رحمة الله، ليس في أصل التكوين، وإنما الإنسان هو الذي يحدد وعاء نفسه بعمله.

فكلما يكون عمل الإنسان وجهده لله أعظم، يتسع وعاء نفسه أكثر، وكلما يتسع وعاء نفسه، يعظم حظّه من رحمة الله.

عرفة منزل الدعاء والاستجابة

عرفة منزل الدعاء والاستجابة، فيها يصعد الدعاء إلى الله، وإليها تنزل الاستجابة من عند الله ... والدعاء في كل مكان يصعد إلى الله، والاستجابة في كلّ مكان تنزل من عند الله إلى العباد.

ولابد لهذا الأمر من توضيح وشرح، فأقول:

إنّ الذنوب تحبس الدعاء، وتقطع الرجاء من عند الله ... وقد ورد في الدعاء الذي علّمه أميرالمؤمنين (ع) لكميل بن زياد:

«أللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ... أللهم اغفر لي الذنوب التي

ص: 136

تقطع الرجاء».

و عن أميرالمؤمنين (ع): «المعصية تمنع الاستجابة».

عن علي بن الحسين (عليهما السلام): «الذنوب التي تردّ الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين»(1) فيدعو الانسان، فيحبس الدعاء عن الصعود إلى الله، أو تقطع رجاء العبد بالله تعالى، فلايتوفق العبد للدعاء، وهو أشدّ وأعظم من الأول، وفي الرواية: «إن الذنوب التي تردّ الدعاء سوء النيّة، وخبث السريرة، والنفاق، وترك التصديق بالإجابة، وتأخير الصلوات المفروضات، وترك التقرب إلى الله بالبر والصدقة، واستعمال البذاء والفحش» (2).

ولكن العبد إذا تاب إلى الله، واستغفر من ذنوبه، تتساقط الحجب بينه وبين الله، فيصعد دعاؤه إلى الله، ويتفتّح قلبه على الله تعالى، وتنفتح عليه أبواب الرجاء، وتنزل عليه الاستجابة من عند الله في كل مكان، في عرفة وغير عرفة ... وهذا كله لا ريب فيه.

إلّا أنّ لوادي عرفة يوم عرفة بعد الزوال إلى الغروب، خصوصيةً وامتيازاً، لاتوجد في غيرها إلّا نادراً.

ففي وادي عرفة بعد الزوال من يوم عرفة، تتساقط كل الحجب بين العبد وبين الله، ويصعد الدعاء إلى الله، وتتفتح القلوب على الله، وتنزل الاستجابة من عند الله على عباده بدون حجاب.

عن الإمام الرضا (ع) قال: «كان أبوجعفر (الباقر) (ع) يقول: ما من برّ ولا فاجر يقف بجبال عرفات، فيدعو الله إلّا استجاب الله له، أما البرّ ففي حوائج الدنيا


1- معاني الأخبار: 270
2- المصدر نفسه: 271

ص: 137

والآخرة، وأمّا الفاجر ففي أمر الدنيا»(1) و قد سمع علي بن الحسين (عليهما السلام) يوم عرفة سائلًا يسأل الناس، فقال له: «ويحك! أغير الله تسأل في هذا اليوم؟ إنه ليرجى لما في بطون الحبالى في هذا اليوم أن يكون سعيداً». (2)

كيف ندعو الله؟ وماذا نطلب من الله؟

و لاشك أنّ لكيفية الدعاء تأثيراً فيما ينال الإنسان من رحمة الله.

فإذا حضر الإنسان منازل الدعاء والاستجابة، كان عليه أن يعرف كيف يدعو الله، كما يجب عليه أن يعرف: ماذا يطلب من الله في الدعاء.

فإنَّ الرحمة الهابطة على عرفة، إذا كانت عظيمة لاحدّ لها، فإنّ فرصة الدعاء من الزمان محدودة ... فينبغي أن يعرف الإنسان كيف يدعو وماذا يدعو؟ لئلا يخسر هذه الفرصة الزمانية المحدودة ولايهدرها.

كيف ندعو الله؟

و أول ما يجب على الإنسان أن يعرفه: كيف يدعو الله؟ ... فإن لكيفية الدعاء أثراً مباشراً، كما قلنا فيما ينال الإنسان من رحمة الله.

الاجتهاد في الدعاء:

جاء في فقه الرضا (ع): «فإذا زالت الشمس (من يوم عرفة) فاغتسل، أو قبل الزوال، ثم ائت الموقف، فادع بدعاء الموقف، واجتهد في الدعاء والتضرع، وألحّ قائماً وقاعداً إلى أن تغرب الشمس». (3)


1- بحارالأنوار 251: 99 وقرب الاسناد: 166؛ ووسائل الشيعة، 13: 545، ط آل البيت.
2- وسائل الشيعة 13: 555، ح 18431؛ بحارالأنوار 99: 252، ح 9
3- فقه الرضا: 26؛ وبحارالأنوار 99: 255

ص: 138

اللواذ بالله:

عن حماد بن عيسى قال: «رأيت أباعبدالله (الصادق) (ع) بالموقف على بغلة، رافعاً يده إلى السماء حتى انصرف، وكان في موقف النبي (ص)، وظاهر كفيه إلى السماء، وهو يلوذ ساعة بعد ساعة، بسبابتيه». (1)

التحضير للدعاء والاستعاذة:

ساعات عرفة بعد الزوال محدودة، والرحمة الهابطة على عرفة غير محدودة، فلكي يتمكن الحاج أن ينال من رحمة الله أكثر ما يسعه وعاؤه النفسي، عليه أن يحضّر نفسه لاستقبال هذه الرحمة الإلهية الواسعة الهابطة ... وأفضل ما يحضّر الإنسان لاستقبال هذه الرحمة العظيمه الهابطة القرآن والذكر، فإنّ القرآن والذكر يفتحان القلوب المغلقة، ويعدّان الإنسان لاستقبال رحمة الله بأوسع ما يتحمله وعاء نفس المؤمن.

كما أن الاستعاذة بالله من الشيطان، يحُصّن الحاج من وساوس الشيطان وخطراته، ومكره، وكيده ... فإن الشيطان لايهرع إلى صدّ المؤمن وحجبه عن الله، وإشغاله عن الدعاء والاستغفار، كما يهرع في عرفة ... ففيها يحسّ الشيطان بأن الخطر يهدد كلّ ما عمله وكل ماجاء به، خلال مدة طويلة، في تحريف المؤمن وصدّه عن الله ... ولذلك يبذل كلّ ما في وسعه لإشغال المؤمن عن الذكر والدعاء والاستغفار.

و من أجل ذلك يجب الاستعاذة بالله في عرفة كثيراً من الشيطان، لئلايصحب الشيطانُ المؤمنَ في حرم أمن الله في عرفة، وفي الساعات العزيزة الغالية، فيسلبه توفيق الدعاء والاستغفار والذكر.


1- قرب الإسناد: 22؛ وبحارالأنوار 99: 250، ح 3

ص: 139

عن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: «إنما تعجل الصلاة وتجمع بينهما لتفرغ نفسك للدعاء، فإنه (يوم عرفة) يوم دعاء؛ ثم تأتي الموقف، وعليك السكينة والوقار؛ فاحمد الله وهلّله، ومجّدْه، وأثن عليه، وكبّره مأة مرة، واحمده مأة مرة، وسبّحه مأة مرّة، واقرأ قل هو الله أحد مأة مرّة، وتخيّر لنفسك من الدعاء ما أحببت، واجتهد فإنّه يوم دعاء ومسألة، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنّ الشيطان لن يذهلك في موطن قطّ أحب إليك من أن يذهلك من ذلك الموطن، وايّاك أن تشتغل بالنظر إلى الناس، و أقبل قُبَلَ نفسك، وليكن فيما تقوله: أللهمّ إنّي عبدك فلا تجعلني من أخيب وفدك، وارحم مسيري إليك من الفج العميق»(1) .

و عن أبي بصير عن أبي عبدالله (الصادق) (ع) قال: «إذا أتيت الموقف فاستقبل البيت وسبح الله مأة مرّة، وكبّر الله مأة مرّة، وتقول ماشاء الله لاقوة إلّا بالله مأة مرّة ... ثم تقرأ عشر آيات من أول سورة البقرة، ثم تقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرّات، وتقرأ آية الكرسي حتى تفزع منها ...» (2).

التحضير لعرفة بالصلاة

الصلاة من مفاتيح الرحمة، ومما يحضّر الإنسان لاستقبال رحمة الله في عرفة ... وقد كان الإمام الصادق (ع) يصلي بعرفة مأة ركعة ب- (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ويختمها بآية الكرسي ... وكان (ع) يقول: «ما شهد هذا الموضع نبي ولا وصي إلّا صلّى هذه الصلاة». (3)


1- وسائل الشيعة 13: 538، ح 18394
2- المصدر السابق 13: 540، ح 18397
3- المصدر السابق 13: 542، ح 18398

ص: 140

حسن الظنّ بالله في الدعاء والمغفرة

عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: «سأل رجل أبي بعد منصرفه من الموقف، فقال: أترى يخيّب الله هذا الخلق كله .. فقال أبي: ما وقف بهذا الموقف أحد إلّا غفر الله له. إلّا أنهم في مغفرتهم على ثلاث منازل ...» (1).

أعظم الناس ذنباً

روى محمد بن علي بن الحسين (ع)، قال: روي: «إن أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفات ثمّ ظنّ أنّ الله لم يغفر له» (2).

و روى الصدوق في الفقيه: «أعظم الناس جرماً من أهل عرفات الذي ينصرف من عرفات، وهو يظنّ أنه لم يغفر له، يعني الذي يقنط من رحمة الله» (3).

ليس في عرفة دعاء موقت

و قد ورد في عرفة عن طريق أهل البيت: أدعية، موقّتة، منظمة، هي من غرر الدعاء والذكر، وسوف نتحدث عنها إن شاء الله.

ولكن للحاج عندما يقف في عرفة أن يدعو الله تعالى لحاجاته الخاصة بلسانه ولغته، مسترسلًا، من غير أن يتقيد بدعاء موقّت.

فإنّ الله يحبّ أن يسترسل العبد في حاجاته مع ربّه، بلغته ولسانه، وبالطريقة التي يحبها في الدعاء مع الله تعالى.

و قد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: «سبعة مواطن ليس فيها دعاء موقّت، منها الوقوف بعرفات» (4).


1- المصدر السابق 13: 549، ح 18406
2- المصدر السابق 13: 547، ح 18407
3- من لايحضره الفقيه 2: 137، 587
4- بحارالأنوار 99: 251- 252

ص: 141

و ليس معنى ذلك النهي عن الدعاء الموقّت، وإنما المعنى أن للعبد أن يسترسل في الدعاء مع الله في عرفة، من غير أن يلتزم بدعاء موقّت.

ماذا نطلب من الله تعالى في الدعاء؟

ينبغي في الدعاء أن نطلب من الله تعالى كلّ شي ء مما نحتاج إليه، وكلّما يهمنا في دنيانا وآخرتنا، ونطلب منه أن يكفينا كلما نحترز منه من سوء وشرّ في ديننا ودنيانا، فإنّ مفاتيح الخير وأسبابه كلها بيد الله، ولا يمتنع عن إرادته شي ء، و لايعجزه شي ء، ولا يبخل على عباده بشي ء من الخير والرحمة.

و إذا كان الله تعالى لايبخل بالعطاء والإجابة، فمن المعيب، ومن القبيح أن يبخل العبد بالسؤال والدعاء.

في الحديث القدسي: «لو أنّ أولكم وآخركم وحيّكم وميّتكم اجتمعوا فتمنى كل واحد ما بلغت أمنيته فأعطيته، لم ينقص ذلك من ملكي». (1)و أيضاً عن رسول الله (ص) من الحديث القدسي: «لو أن أهل سبع سماوات وأرضين سألوني جميعاً، وأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي، وكيف ينقص ملك أنا قيّمه؟!»(2) و في الحديث عن رسول الله (ص): «سلوا الله وأجزلوا، فإنّه لايتعاظمه شي ء»(3) .

و روي: «لاتستكثروا شيئاً مما تطلبون، فما عند الله أكثر».


1- المصدر السابق 293: 93
2- المصدر السابق 303: 93
3- المصدر السابق 302: 93

ص: 142

و أمثلة التعميم والتوسعة في الدعاء في طلب كل خير، والاحتراز من كل شرّ، كثيرة في النصوص المروية من الدعاء عن أهل البيت:، نذكر منها بعض النماذج.

منها الدعاء المعروف:

«يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله، ومن لم يعرفه، تحنّناً منه ورحمة، أعطني بمسألتي إيّاك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عنّي بمسألتي إيّاك جميع شرّ الدنيا وشرّ الآخرة، فإنّه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم».

و في الدعاء: «أللهم إنّي أسألك مفاتح الخير وخواتمه، وسوابغه وفوائده وبركاته، وما بلغ علمه علمي، وما قصر عن إحصائه حفظي».

و في الدعاء: «يا من هو في علوّه قريب، يا من هو في قربه لطيف، صلّ على محمّد وآل محمّد، أللهم إنّي أسألك لديني ودنياي وآخرتي من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله».

و في الدعاء: «وأدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً وآل محمّد، وأخرجني من كلّ شرّ أخرجت منه محمّداً وآل محمّد».

و في الدعاء: «و اكفني ما أهمّني من أمر دنياي وآخرتي».

و في الدعاء: «أللهم لا تدع لي ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرجته، ولا سقماً إلّا شفيته، ولا عيباً إلّا سترته، ولا رزقاً إلّا بسطته، ولا خوفاً إلّا آمنته، و لاسوءاً إلّا صرفته، ولا حاجةً هي لك رضاً، و لي فيها صلاح إلّا قضيتها يا أرحم الراحمين».

و في الدعاء: «يا من بيده مقادير الدنيا والآخرة، وبيده مقادير النصر والخذلان، وبيده مقادير الغنى والفقر، وبيده مقادير الخير والشرّ، صلّ على محمّد وآل محمّد،

ص: 143

وبارك لي في ديني الذي هو ملاك أمري، ودنياي التي فيها معيشتي، وآخرتي التي إليها منقلبي، وبارك لي في جميع أموري ... أعوذ بك من شرّ المحيا والممات، وأعوذ بك من مكاره الدنيا والآخرة».

و في الدعاء: «أسألك بنور وجهك الذي أشرقت به السماوات، وانكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تصلي على محمّد وآل محمّد، وأن تصلح لي شأني كله، ولاتكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً».

و في دعاء الأسحار للإمام زين العابدين (ع): «اكفني المهم كلّه، واقض لي بالحسنى، وبارك في جميع أموري، واقض لي جميع حوائجي، أللهم يسّر لي ما أخاف تعسيره، فإن تيسير ما أخاف تعسيره عليك يسير، وسهّل لي ما أخاف حزونته، ونفّس عني ما أخاف ضيقه، وكفّ عني ما أخاف غمّه، واصرف عني ما أخاف بليته».

و في دعاء الأسحار أيضاً: «وهب لي رحمة واسعة جامعة أطلب بها خير الدنيا والآخرة».

قد يكون من المعيب أن يطلب بعضنا من بعض حاجاته الطفيفة والصغيرة، ولكن عندما يكون وجه العبد إلى الله تعالى في الطلب والسؤال يختلف الأمر، فلايكون الطلب معيباً، مهما صغرت الحاجة، وخفّت.

فإنّ العبد مكشوف لربّه سبحانه وتعالى بكل حاجاته، ونقصه، وضعفه، وبكل سوآته وعوراته، ولا يخفى عليه سبحانه شي ء من فقرنا ونقصنا حتى نخجل أن نعرض عليه سبحانه ضعفنا، وعجزنا، وحاجاتنا التي نخجل أن نعرضها على غيره سبحانه.

فلاينبغي أن تحجب جلائل الحاجات والطلبات عنه سبحانه صغار الحاجات

ص: 144

وخفافها.

والله تعالى يحبّ أن يرتبط به عبده في كلّ حاجاته وشؤونه، صغارها وكبارها، حتى يكون ارتباطه به ارتباطاً دائماً، ولن يدوم هذا الارتباط، ويستمر ويتصل بين العبد وربّه، إلا إذا كان العبد يشعر بالحاجة إلى ربّه، في كلّ شؤونه وحاجاته في جلائل الحاجات وصغارها، حتى في مثل شسع نعله إذا انقطع.

عن رسول الله (ص): قال: «سلوا الله عزّوجلّ ما بدا لكم من حوائجكم، حتى شسع النعل، فإنّه إن لم ييسره لم يتيسر».

والتعبير دقيق: «فإنّه إن لم ييسره لم يتيسر»، فإنّ التيسير كله بيد الله، ما جلّ وكبر منه، وماصغر ... وما من شي ء يخرج عن سلطان الله، وما من عمل، مهما كان صغيراً، لايستغني فيه العبد عن تيسير الله، فإنّه إن لم ييسره الله لم يتيسر، حتى لو كان مثل شسع النعل، أو ما هو أصغر من ذلك، و دونه.

و عنه (ص) قال: «ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلّها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع»(1) .

و عنه (ص): «لاتعجزوا عن الدعاء، فإنّه لم يهلك أحد مع الدعاء، وليسأل أحدكم ربّه حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع، واسألوا الله من فضله، فإنّه يجب أن يسأل»(2) .

و عن سيف التّمار قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «عليكم بالدعاء؛ فإنّكم لاتتقربون بمثله، ولاتتركوا صغيرة لصغرها أن تسألوها، فإنّ صاحب الصغائر هو صاحب الكبائر» (3).


1- مكارم الأخلاق: 312، بحارالأنوار 295: 93
2- بحارالأنوار 300: 93
3- المصدر السابق 293: 93؛ المجالس: 19، وسائل الشيعة 1090: 4، ح 8635، أصول الكافي: 516

ص: 145

و في الحديث القدسي: «يا موسى، سلني كلّ ما تحتاج إليه، حتّى علف شاتك وملح عجينك»(1) .

و لسنا بحاجة إلى التأكيد على أنّ هذا المبدأ في الدعاء لايعني التخلي عن العمل والحركة والسعي، ولكن على الإنسان في حركته وسعيه أن لايضع أولًا ثقته ورجاءه في عمله وحركته، بل يجعل رجائه وثقته في الله تعالى، ولايقطع علاقته وارتباطه و دعائه لله تعالى في زحمة تحركه وعمله وسعيه.

و هذا وذاك يتطلبان من الإنسان، أن يسأل الله تعالى كل حاجاته وشؤونه، حتى شسع نعله، وعلف دابته، وملح عجينه، كما ورد في الحديث القدسي.

كما نسأل الله تعالى كل شي ء، نسأله النعم الجليلة والكبرى، ولانستكثر نعمةً مهما جلّت وعظمت أن نسألها من الله، إن كان ذلك في الإمكان، فلا يعظم شي ء على الله، ولا يُعْجِزُ الله تعالى شي ء، ولا ينقص من خزانته، مهما كان عطاؤه جليلًا وعظيماً.

و كما ينبغي أن لانخجل من الله تعالى أن نطلب منه صغائر الأمور، من نحو علف الدابة، وشسع النعل، وملح العجين، كذلك ينبغي أن لانستكثر على الله تعالى أن نسأله النعم العظيمة الجليلة، مهما عظمت وجلّت.

روي عن ربيعة بن كعب قال: قال لي ذات يوم رسول الله (ص): «ياربيعة، خدمتني سبع سنين، أفلاتسألني حاجة؟ فقلت: يا رسول الله، أمهلني حتى أفكّر، فلمّا أصبحت ودخلت عليه قال لي: يا ربيعة، هات حاجتك، فقلت: تسأل الله أن يدخلني معك الجنة، فقال لي: من علّمك هذا؟ فقلت: يا رسول الله، ما علّمني أحد،


1- عدة الداعي: 98

ص: 146

لكني فكّرت في نفسي وقلت: إن سألته مالًا كان إلى نفاد، وإن سألته عمراً طويلًا وأولاداً، كان عاقبتهم الموت، قال ربيعة: فنكس رأسه ساعة، ثمّ قال (ص): أفْعَلُ ذلك، فأعنّي بكثرة السجود؛ قال: وسمعته يقول (ص): ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك، فالتزموا عليّ بن أبي طالب (ع)» (1). الخبر بتمامه (2).

و ممّا ينبغي من الدعاء يوم عرفة الدعاء للمؤمنين؛ وقد ورد في ذلك تأكيد كثير في النصوص الإسلامية، وأنّ الله تعالى يرزق العبد بالدعاء للمؤمنين ضعف الدعاء لنفسه، أو أضعافه، حسب اختلاف الروايات.

و إنّ الدعاء للمؤمنين دعاء مضمون الإجابة لهم وضعفه أو أضعافه له (للداعي) بخلاف دعاء الإنسان لنفسه، فقد لايعلم الإنسان أحياناً أن دعاءه لنفسه هل يبلغ مبلغ الإجابة أم لا؟

و الدعاء للمؤمنين على نحوين:

1. التعميم في الدعاء للمؤمنين

2. التخصيص في الدعاء للمؤمنين

التعميم في الدعاء للمؤمنين

و هو مما علّمنا الله تعالى في كتابه في آيات كثيرة، كما ورد هذا النوع من الدعاء، فيما بلغنا من أدعية أهل البيت:، وفي هذا النحو من الدعاء يخرج الإنسان في دعائه بين يدي الله من نطاق الذات الضيقة، إلى رحاب الأمّة الواسع ... وهذه نقلة كبيرة من الأنا والذات، إلى رحاب الأمّة التي اختارها الله


1- بحارالأنوار 327: 93
2- الدعاء: 151- 155 محمدمهدي الآصفي، الطبعة الأولى.

ص: 147

لحمل رسالته، وجعلها أمة وسطى شاهدة على الناس.

و من نماذج ذلك في كتاب الله:

(إِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولَا الضَّالِّينَ) (1).

(ربَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (2).

(ربَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النَّارِ) (3).

(ربَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وثَبِّتْ أقْدامَنا وانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (4).

(ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا ربَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(5) .

(ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أنْتَ الْوَهَّابُ) (6).

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِى لِلإِيمانِ أنْ آمِنُوا بِربِّكُمْ فآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وتَوَفَّنا مَعَ الأَبْرارِ ربَّنا وآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (7).

(رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ)(8) .


1- الفاتحة: 6- 7
2- البقرة: 127
3- البقرة: 201
4- البقرة: 250
5- البقرة: 286
6- آل عمران: 8
7- آل عمران: 193- 194
8- الأعراف: 125

ص: 148

التخصيص في الدعاء للمؤمنين

و هو نوع آخر من الدعاء للمؤمنين.

في هذه الأدعية يعمد الداعي إلى ذكر المؤمنين الذين يعرفهم بأسمائهم ويخصّهم واحداً بعد آخر بالذكر، ويستغفر الله تعالى لهم، ويدعو لهم في حاجاتهم بين يدي الله، والله تعالى يحب أن يسمع دعاء عباده، بعضهم لبعض بالتخصيص والإسم ... وإنَّ هذا اللون من الدعاء يزيل ما في نفوس المؤمنين من الكدر أحياناً، ويطهّر قلوبهم تجاه بعض عن الكره، والحسد، وما يكدر صفو النفوس مما لاينبغي أن يحمله مؤمن لمؤمن في نفسه.

عن أبي عبدالله (الصادق) (ع): «دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب، يدرّ الرزق، ويدفع المكروه»(1) .

و عن أبي جعفر الباقر (ع): «أوشك دعوة، وأسرع إجابة، دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب»(2) .

و عن أبي خالد القماط، قال: قال أبوجعفر (الباقر) (ع): «أسرع الدعاء نحجاً، دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب، يبدأ بالدعاء، فيقول له ملك موكّل به: آمين ولك مثلاه»(3) .

روى محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه، قال: رأيت عبدالله بن جندب بالموقف، فلم أر موقفاً أحسن من موقفه، ما زال مادّاً يده إلى السماء، ودموعه تسيل على خدّيه، حتّى تبلغ الأرض، فلمّا انصرف الناس قلت: يا أبامحمد، ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك. قال: والله ما دعوت إلّا لإخواني،


1- أصول الكافي 435؛ ووسائل الشعية 1145: 4، ح 8867
2- المصدر السابق: 435
3- المصدر السابق.

ص: 149

وذلك لأنّ أبالحسن موسى بن جعفر (ع) أخبرني أنه: «من دعا لأخيه بظهر الغيب، نودي من العرش: ولك مأة ألف ضعف مثله»؛ فكرهت أن أدع مأة ألف ضعف مضمونة لواحدة، لا أدري تستجاب أم لا؟

(1) و روى ثقة الإسلام الكليني أيضاً بسنده عن ابن أبي عمير، قال: كان عيسى بن أعين، إذا حج فصار إلى الموقف أقبل على الدعاء لإخوانه، حتى يفيض الناس. قال: فقلت له: تنفق مالك وتتعب بدنك، حتّى إذا صرت إلى الموضع الذي تبثّ فيه الحوائج إلى الله عزّوجلّ، أقبلت على الدعاء لإخوانك، وتركت نفسك، فقال: إني على ثقة من دعاء الملك لي، وفي شك من الدعاء لنفسي (2) .

عن إبراهيم بن أبي البلاد (أو عبدالله بن جندب) قال: كنت في الموقف فلمّا أفضت، لقيت إبراهيم بن شعيب، فسلمت عليه، وكان مصاباً بإحدى عينيه، وإذا عينه الصحيحة حمراء، كأنه علقة (علقة دم)، فقلت له: قد أصبت بإحدى عينيك، وأنا والله مشفق على الأخرى، فلو قصرت عن البكاء قليلًا، قال: لا والله يا أبامحمد، ما دعوت لنفسي اليوم بدعوة، فقلت: فلمن دعوت؟ قال: دعوت لإخواني، فإني سمعت أباعبدالله (ع) يقول: «من دعا لأخيه بظهر الغيب، وكّل الله به ملكاً يقول: ولك مثلاه؛ فأردت أن أكون أنا أدعو لإخواني، ويكون الملك يدعو لي، لأني في شك من دعائي لنفسي، ولست في شك من دعاء الملك لي (3).

عرفة منزل المغفرة

عرفة منزل مغفرة، ومن أعظم منازل المغفرة على وجه الأرض، وما من مسلم يقف الموقف يوم عرفة من زوال الشمس إلى الغروب، إلّا ويغفر الله تعالى له ما


1- وسائل الشيعة 13: 544، ح 18402؛ ورواه الصدوق مرسلًا في الفقيه 2: 137/ 589
2- الكافي 465: 4/ 8؛ التهذيب 185: 5- 616؛ وسائل الشيعة 13: 544، ح 18403
3- وسائل الشيعة 13: 545، ح 18404

ص: 150

تقدّم من ذنبه.

روى ابن أبي عمير عن عمر بن يزيد، قال: سمعت أباعبدالله (الصادق) (ع)، يقول: «الحاج إذا دخل مكة، وكّل الله به ملكين، يحفظان عليه طوافه، وصلاته، وسعيه، فإذا وقف بعرفة، ضربا على منكبه الأيمن، ثمّ قالا له: أمّا ما مضى فقد كفيته، فانظر كيف تكون فيما تستقبل» (1).

و عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله الصادق (ع)، قال: «قال علي بن الحسين 8: أما علمت إذا كان عشية عرفة يقول (الله): أنظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ... قد شفعت محسنهم في مسيئهم، وقد تقبّلت من محسنهم، فأفيضوا مغفوراً لكم، ثمّ يأمر ملكين، فيقومان بالمأزمين فيقولان: أللهم سلّم سلّم»(2) .

و روى ابن فهد الحلّي في عدة الداعي: إنّ من الذنوب ما لايغفر إلّا بعرفة والمشعر الحرام (3).

عن جابر بن عبدالله: ما من مسلم يقف عشيّة عرفة بالموقف، فيستقبل القبلة بوجهه، ثمّ يقول: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ... ثمّ يقرأ: (قل هو الله أحد) مأة مرّة، ثم يقول: أللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ... ألا قال الله تبارك وتعالى: «يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟! سبّحني، وهلّلني، وكبرني، وعظمني، وعرفني وأثنى عليّ، وصلّى على نبييّ ... أشهدوا ملائكتي، إني قد غفرت له، وشفعته في نفسي، ولو سألني عبدي هذا، لشفعته في أهل الموقف كلهم» (4).

عن علي (ع) أنه قال بعرفات: «لا أدع هذا الموقف ما وجدت إليه سبيلًا، لأنه ليس في الأرض يوم فيه عتقاء من النّار، وليس يوم أكثر عتقاً للرقاب فيه من يوم


1- بحارالأنوار 99: 254؛ ثواب الأعمال للصدوق: 128
2- بحارالأنوار 254: 99؛ المحاسن: 65
3- عدة الداعي: 35؛ بحارالأنوار 261: 99
4- فضائل الأوقات، للبيهقي 1: 221

ص: 151

عرفة، فأكثروا في ذلك اليوم أن تقولوا: أللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي في الرزق الحلال ...» (1).

عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (ع) في حديث: «إنّ النّبي (ص) قال للأنصاري قبل أن يسأله: جئت تسألني عن الحج وعن الطواف بالبيت ... ويوم عرفة؟ فقال الرجل: إي والذي بعثك بالحق (فقال (ص))، فيما قال له: ... ويوم عرفة يباهي الله عزّوجلّ به الملائكة، فلو حضرت ذلك برمل عالج ذنوباً، فإنه تبتّ ذلك اليوم ...».(2) عن عبدالله عن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: «يوكّل الله عزّوجلّ ملكين بمأزمي عرفة، فيقولان: سلّم سلّم».(3) و عن علي بن مزيد قال: سمعت أباعبدالله (ع) يقول: «ما أحد ينقلب من الموقف ... إلّا برحمة ومغفرة، ويقال له: قد غفر لك، وطهرت من الدنس، فاستقبل العمل»(4) .

و عن عبدالله عن سنان، قال: سمعت أباعبدالله (الصادق) (ع) يقول: «إنّ الله ينظر إلى أهل عرفة من أول الزوال، حتّى إذا كان عند المغرب، ونفر الناس، وكّل الله ملكين بحيال المأزمين، يناديان عند المضيق الذي رأيت: يا ربّ سلّم سلّم»(5) .

و عن إدريس بن يوسف عن أبي عبدالله (الصادق) (ع) قال: «قلت: أيّ أهل عرفة أعظم جرماً؟ قال (ع): المنصرف من عرفة، وهو يظنّ أن الله لم يغفر له» (6).

و عن أبي عبدالله (ع)، قال: سأله رجل في المسجد الحرام من أعظم وزراً؟


1- جامع الأحاديث، للسيوطي، مسند علي بن أبي طالب 30: 74، ح 32839
2- وسائل الشيعة 225: 11، ح 14659 آل البيت، فإنّه تبتّ يعني تنقطع.
3- المصدر السابق، ح 18452
4- بحارالأنوار 261: 99
5- المصدر السابق 261: 99، كتاب زيد النرسي: 54 بتصرف.
6- المصدر السابق 263: 99- 265

ص: 152

فقال (ع): «من وقف بهذين الموقفين، عرفة والمزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين، ثم طاف بهذا البيت، وصلّى خلف مقام إبراهيم (ع)، ثمّ قال في نفسه وظنّ أنّ الله لم يغفر له، فهو من أعظم وزراً»(1) .

عرفة قريبة من الله

في عرفة يشعر الإنسان أنه قريب من الله، يدعو الله تعالى فيستجيب له ... فإنّ استجابة الدعاء من أقوى أمارات قرب العبد إلى الله ...

(وَ إِذا سَألَكَ عِبادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى ولْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(2) .

هكذا: (قَرِيبٌ أجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).

إنّ الإجابة عند الدعاء أمارة قرب العبد إلى الله ... وهذه الأمارة الأولى، والأمارة الثانية لقرب العبد إلى الله في عرفة: إنّ الله تعالى يغفر لأهل عرفة ذنوبهم إذا تابوا، ويتقبل منهم التوبة إذا استغفروا ... والاستغفار والتوبة أمارة ثانية لقرب العبد من الله.

(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(3) .

وهاتان إمارتان لقرب العبد من الله تعالى في عرفة.

و في عرفة تصبّ رحمة الله على أهل عرفة من غير حساب، ونزول الرحمة إمارة القرب:

(إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (4).


1- وسائل الشيعة 96: 11، ح 14333
2- البقرة: 186
3- هود: 61
4- الأعراف: 56

ص: 153

إذن، عرفة قريبة من الله، وأهل عرفة قريبون من الله، يدعون الله فيستجيب لهم، ويستغفرون فيغفر لهم، ويتوبون إليه فيتقبل توبتهم.

وكأنَّ الحجب التي تحجب العبد عن الله، تتساقط في عرفة حجاباً بعد حجاب، فلا يكون بين العبد وبين ربّه حجاب في عرفة، فيدعوه العبد فيستجيب له الله تعالى، ويتوب إليه و يتقبّل توبته.

و ما أروع السجود، وإطالة السجود على رمال عرفة، وما أروع البكاء، وإطالة البكاء بين يدي الله تعالى في السجود في عرفة.

فإنّ العبد لن يكون أقرب إلى الله في حال من السجود والبكاء والنحيب بين يدي الله، فإنّ هذا يضاعف هذا القرب.

... فإذا كان السجود، والبكاء والنحيب والاستغفار بين يدي الله في السجود، في عرفة حيث يكون العبد قريباً من الله تعالى ... فلن يكون للعبد حال أقرب إلى الله منه في هذا الحال.

فليغتنم لحظات هذه الساعات المحدودة، وآناتها في الدعاء، والسجود، والبكاء، والتضرع، والخشوع، والتذلل بين يدي الله، ورفع اليدين إلى الله على هيئة السائل الذليل، فإنّ هذه الساعات والآنات واللحظات من أفضل ساعات عمر الإنسان ولحظاته، ولن يكون في حال أقرب منه إلى الله تعالى، ولا نستثني من ذلك حالًا إلّا الذين يتعرفون في الحائر الحسيني في هذا اليوم.

كيف تستقبل عرفةُ ضيوف الرحمان وكيف تودعهم؟

تستقبل عرفةُ الناس و هم يحملون ركاماً من الذنوب والآثام، فإذا أفاضوا من عرفة إلى المشعر الحرام بعد غياب الشمس، تركوا هذا الركام من الذنوب في عرفة، وأفاضوا خفافاً إلى المشعر الحرام.

ص: 154

و سبحان الله! ... إنّ الإنسان ليشعر بالثقل حين يقدم إلى عرفة، والخفة حين يغادر عرفة إلى المشعر الحرام، وكأنه ترك في وادي عرفة عبئاً كان يثقل ظهره من قبل، تركه في عرفة، وتخفف عنه، وها هو الآن، وهو يفيض إلى المشعر الحرام، يشعر بهذه الخفّة، وهو مُجْهَدٌ أشد الجُهْد، ومُتْعَبٌ أكثر التعب، لا شك في ذلك، ومع ذلك يشعر أنه قد تخفّف. عند الإفاضة كثيراً ... وليس هذا العبئ من نوع الثقل المادي الذي نقيسه بمعاييرنا في الأوزان، ولكنّه على كلّ حال أمر محسوس لكلّ من يفيض من عرفة إلى المشعر الحرام، وإنّ بين إحساس الأجسام ومعاناة النفوس والأرواح علاقة حميمة، كما أنّ بين النفوس والأجسام علاقة ينعكس كلّ منهما على الآخر.

و عندما يفيض الناس من عرفة يتركون وراءهم ركامين، كأنهما التلال الكبيرة: ركام من القمامة، والفضلات، والأوساخ، وركام من الذنوب، والمعاصي، والآثام.

يشتغل عمّال الموقف بتنظيف الركام الأول، ويشتغل الملائكة بتنظيف عرفة من الركام الثاني، حتّى تستقبل عرفة ضيوف الرحمان من الحجيج للعام القابل، فيمرون من خلال مصفاة عرفة.

و هكذا تتجدد هذه العملية في كل عام، تستقبل عرفة ضيوف الرحمان، شعثاً غبراً، قد أضرهم الجهد والتعب، وأرهقتهم المناسك، ولكنّهم يخرجون من مصفاة عرفة، كيوم ولدتهم أمّهاتهم، مطهّرين منزهين، ليبدأوا حياتهم من جديد.

و الحمد لله على عفوه بعد قدرته، والحمد لله على طول أناته في غضبه، والحمد لله الذي لا يهتك حجابه، ولا يغلق بابه، ولا يردّ سائله، ولا يخيب آمله.

و الحمد لله الذي تحبّب إليّ، وهو غني عنّي، والحمد لله الذي يحلم عنّي حتّى كأني لا ذنب لي، فربي أحمد شي ء عندي، وأحق بحمدي.

***

ص: 155

كيف نحافظ على مكاسب الحج؟

اشارة

ص:156

ص: 157

هذا سؤال هام يتساءله الحجاج بعد أداء مناسك الحج.

وفيما يلي الإجابة على هذا السؤال، إن شاءالله.

ضيافتان من الله تعالى لعباده

لله تعالى ضيافتان لعباده في دورة السنة

الضيافة الأولى في شهر رمضان

والضيافة الثانية في شهر ذي الحجة

الضيافة الأولى بالصيام

و الضيافة الثانية بالحج

و ناهيك بهما ضيافتان كريمتان من رب العالمين لعباده

و قد ورد التصريح بهاتين الضيافتين في المصادر الإسلامية بصيغ مختلفة.

أمّا عن ضيافة شهر رمضان، فقد روي الصدوق بسند معتبر عن الرضا (ع) عن آبائه عن أميرالمؤمنين (ع) أنّ رسول الله (ص) خطبنا ذات يوم (و في بعض الروايات في آخر جمعة من شهر شعبان)، فقال: «أيها الناس قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله».

ص: 158

و أمّا عن ضيافة الحج، فقد وردت طائفتان من الأحاديث تصرّح أولاهما بأنّ الحجاج (وفد) الله تعالى، وقد وفدوا إلى الله؛ وتصرح ثانيتهما أنّ الحجاج ضيوف الرحمان.

أمّا عن الطائفة الأولى، فقد روي عن رسول الله (ص): «وفد الله ثلاثةٌ: الغازي، والمعتمر، والحاج».(1) و عن أميرالمؤمنين (ع): «الحاج والمعتمر وفد الله، وحق على الله أن يكرم وفده، ويحبوه بالمغفره ...». (2) و عن الإمام الحسن (ع): «ثلاثة في جوار الله تعالى ... رجل خرج حاجاً أو معتمراً، لايخرج الّا لله تعالى، فهو من وفد الله تعالى حتى يرجع إلى أهله». (3) و عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) في رسالة الحقوق: «و حقّ الحج أن تعلم أنّه وفادة إلى ربّك، وفرار إليه من ذنوبك، وفيه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك». (4) و عن الصادق (ع): «الحاج والمعتمر وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم وإن شفعوا شفعهم، وإن سكتوا ابتدأهم ...». (5) و أمّا عن الطائفة الثانية (ضيافة الله)، فقد روي: «ممّا أوحى الله عزّوجلّ أنا الله ذو بكة، أهله جيرتي، وزوارها وفدي وأضيافي، أعمره بأهل السماء وأهل الأرض، يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً، يعجون بالتكبير والتلبية، فمن اعتمره لايريد غيره فقد زارني، وهو وفد لي، ونزل بي، وحق لي أن أتحفه بكراماتي. (6)


1- 1 مستدرك الوسائل 41: 8، ح 25؛ سنن النسائي 113: 5
2- تحف العقول: 123؛ الحج والعمرة في الكتاب والسنة: 159- 160
3- المصدر السابق.
4- 4 المصدر السابق؛ الفقيه 620: 2
5- المصدر السابق؛ الكافي 255: 4 ح 14
6- المصدر السابق؛ الخرائج والجرائح 80: 1

ص: 159

و عن خالد بن ربعي: أنّ أميرالمؤمنين (ع) دخل مكة في بعض حوائجه فوجد أعرابياً متعلّقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا صاحب البيت، البيت بيتك، والضيف ضيفك، ولكل ضيف من ضيفه قرى، فاجعل قراي منك الليلة المغفرة؛ فقال أميرالمؤمنين (ع) لأصحابه: «أما تسمعون كلام الأعرابي؟ قالوا: نعم. قال: الله أكرم من أن يرد ضيفه». (1) و عن الإمام الصادق (ع): «إنّ ضيف الله عزّ وجلّ رجل حج واعتمر، فهو ضيف الله حتى يرجع إلى منزله».(2) و في الدعاء بعرفة: (أنا ضيفك فاجعل قراي الجنة).

تخصيص شهر رمضان وذي الحجة بالضيافة الإلهية

و عباد الله على مائدة رحمة الله في كلّ وقت من فصول السنة وشهورها وأيامها، ولايَشُذّ أحد من الحضور على مائدة رحمة الله من صالحين وفاسقين ومسلمين وملحدين.

(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً). (3) ولكنّ للضيافة الإلهية في هذين الشهرين، شهر رمضان، وشهر ذي الحجة، لحجاج بيت الله خصوصية و ميزة لاتوجد في غيرهما من حيث العطاء والتكريم الإلهي.

إنّ الضيافة في هذين الشهرين ليست من قبيل ضيافة الأجسام، وإنما هو من ضيافة القلوب، والمائدة الإلهية المعدّة لضيوف الرحمان في هذين الشهرين مائدة رحمة وشفاء، وغذاء للقلوب ... وأعظم الموائد الإلهية في حياة الإنسان بعد نعمة الوجود موائد العقول، وموائد القلوب.


1- المصدر السابق؛ أمالي الصدوق: 533 ح 11
2- المصدر السابق؛ الخصال: 127
3- الإسراء: 30

ص: 160

و مصائب الإنسان في نضوب القلوب والأرواح والنفوس أعظم من معاناته في فقر غذاء الأجسام، ونتيجة سوء التوزيع لموارد الأرض على عباد الله.

و كلّ منها معاناة وعذاب للإنسان، مهما كان الفقر والعجز، سواء كان في غذاء الأجسام، أم العقول، أم القلوب.

و لكن مصيبة الإنسان العظمى هو في نضوب الروافد التي تروي القلوب وتحييها وتنعشها أعظم من مصيبته في العجز الاقتصادي والعلمي، وإن كان كلّ من ذلك مصيبة في حياة الإنسان.

و هذه المائدة التي أعدّها الرحمان تعالى لعباده في شهر رمضان وذي الحجة من نوع موائد القلوب، تحفل بما يحُي القلوب، ويفعّلها، وينشّطها ويهبها البصيرة، والنور، والهداية، واليقين بالله، والاقبال على الله بالذكر والدعاء، والشوق إلى الله، والأنس بذكر الله، وحبّ الله، وحبّ أوليائه، ومقت أعدائه، وأعداء أوليائه، وترقيق القلوب للإنابة، والاخبات والخشوع لله، ومخافة الله، ورجاء الله، والتوبة، والزهد عن الدنيا وحطامها، وقصر الأمل فيها، والاقبال على الصلاة، والانفاق، وطول السجود، والبكاء بين يدي الله، وما لا أستطيع إحصاءه من مواهب الله لعباده في هذه الضيافة الربانية التي يستضيف الله فيها عباده مرتين في السنّة.

و من عجب أنّ الجوع والعطش والكفّ عن الأهواء والشهوات، والكدح والبذل والجهد والتعبّد في هاتين الضيافتين هو السبيل إلى استنزال هذه المواهب العظيمة المباركة من خزائن رحمة الله.

(وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الأَرْضِ). (1) (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). (2)


1- التغابن: 7
2- الحجر: 21

ص: 161

ولكلّ امري ء من المسلمين أن يأخذ من هذه الرحمة الهابطة ما يسعه وعاء نفسه و قلبه، فإنّ الرحمة الهابطة في شهر رمضان و شهر ذي الحجة في الحج ليس لها حدود ... و كلّ منا يأخذ من هذه الرحمة ما يسعه وعاؤه.

المقارنة بين الضيافتين

و بين هاتين الضيافتين شبه كبير وفروق تظهر بالمقارنة.

فهما معاً دورتان تمكنان الإنسان من ضبط النفس والأهواء والشهوات، وربيعان للذكر والقرآن والدعاء، ومنزلان من منازل رحمة الله في وعاء الزمان، ولكلّ منهما قمة.

قمّة شهر رمضان، ليلة القدر في وعاء الزمان، وهو وإن كان مجهولًا، غير أنّ إحرازها ضمن محتملات ليالي القدر ليس بالأمر الصعب.

و قمّة الحج يوم عرفة بعد الزوال، وفي وادي عرفة في وعاء الزمان والمكان.

و من لم يدرك عرفة في الحج المندوب، وتعرّف في الحائر الحسيني يدرك ثواب عرفة إن شاء الله، كما ورد ذلك في نصوص كثيرة.

و من الفروق البارزة بين هاتين الضيافتين، أنّ ضيافة الحج الواجبة مرة واحدة في العمر، وضيافة الصيام في شهر رمضان في كل سنة شهر كامل، ولعلّ السرّ في ذلك- والله أعلم-: أنّ التعبئة النفسية التي يكتسبها الصائم في صيام شهر رمضان تكفيه لسنة واحدة، وأما التعبئة النفسية التي يكتسبها الإنسان في الحج، فإنّها تكفيه لرحلة العمر كلّه، إذا حافظ عليها صاحبها، وحرص عليها.

و فيما يلي أذكر نصين نجدهما في المصادر الروائية المعتبرة، في قيمة كلّ من هاتين الضيافتين، من دون تعليق.

ص: 162

قيمة الضيافة الرمضانية

قد ذكرنا قبل قليل شطراً من رواية الصدوق (رحمة الله) عن الإمام الرضا (ع) عن آبائه عن أميرالمؤمنين (ع) عن رسول الله (ص) في فضل شهر رمضان وها نحن نذكر شطراً آخر من الرواية؛ والرواية طويلة نذكر منها قدر الحاجة.

«شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسئلوا الله ربّكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي من حرم من غفران الله في هذه الشهر العظيم».

قيمة الضيافة الرحمانية في الحج

قد ورد في فضل الحج أحاديث كثيرة من رسول الله (ص) لايسعنا أن نذكرها جميعاً أو نذكر شطراً مناسباً منها، وإنّما نقتصر على رواية واحدة عن رسول الله (ص) أوردها ثقة الإسلام الكليني في الكافي، والشيخ الصدوق في ثواب الأعمال:

عن الصادق (ع): «لما أفاض رسول الله (ص) تلقاه أعرابي في الأبطح، فقال: يا رسول الله! إنّي خرجت أريد الحج- فعاقني عائق- وأنا رجل كثير المال، فمرني أصنع في مالي ما أبلغ ما بلغ الحاج.

فالتفت رسول الله (ص) إلى أبي قبيس، فقال: لو أنّ أباقبيس لك زنته ذهبة حمراء، أنفقته في سبيل الله ما بلغت ما بلغ الحاج». (1)و الحج الذي فات هذا الرجل حج مندوب بالتأكيد، لأنّ الفريضة الواجبة لايمكن تعويضها بالانفاق ... ولا شك أنّ الحج الواجب أعظم منزلة وقيمة، ومع


1- 1 الكافي 258: 4؛ ثواب الأعمال: 48

ص: 163

ذلك يقول له رسول الله (ص): «لو أنفقت أباقبيس ذهباً ...» وناهيك بذلك في قيمة الحج وفضله.

المكاسب الخمسة في الحج

إنّ أعظم ما يكسبه الحاج في الحج (التقوى) و (الكدح) و (البذل) و (الذكر) و (الحضور في منازل رحمة الله الزمانية والمكانية) وهي الأجنحة الخمسة التي يعرج بها العبد من الأنا والهوى إلى الله، وهو المعراج الأعظم في حياة الإنسان في الدنيا.

ففي إحرام العمرة والحج يكفّ المعتمر والحاج نفسه من طائفة من محرمات الإحرام طيلة فترة الإحرام، في إحرام العمرة والحج ... ومن أهمّها محرمات الغريزة الجنسية (التي تعود إلى عامل الهوى) ومحرمات الزي والجدال (التي تعود إلى عامل الأنا)، والمحرمات الأخرى التي تمكّن الإنسان من التقشف، ومكافحة عامل حبّ الراحة والعافية.

و هذه هي القيمة الأولى للحج، وهي (التقوى) و (كفّ النفس).

و القيمة الثانية للحج (الكدح)، ولا شك أنّ (الكدح) إذا كان لله وفي سبيل الله، يحمل قيمة كبيرة.

و في العمرة والحج كدح شديد وكثير، من الطواف والسعي والوقوفين والإفاضة والرمي وغيرها.

و لا شك أنّ التشريع الإسلامي أخذ حالة (الكدح) بنظر الاعتبار في العمرة وبصورة خاصة في الحج، ولانعرف في الشريعات الإسلامية عبادة تتطلب كدحاً أكثر من الحج، إلّا (الجهاد).

و هذه هي القيمة الثانية للحج.

و القيمة الثالثة للحج (البذل)، ففي الحج بذل عظيم للأموال، كما فيه كدح كثير للأجسام.

ص: 164

فإنّ نفقات الحج نفقات عالية تتطلب الاستطاعة المالية ... ولا نشك أنّ البذل والانفاق قد أخذ أيضاً بنظر الاعتبار في تشريع الحج، كما لوحظ عنصر (الكدح والارهاق).

و القيمة الرابعة للحج: (الذكر)، فإنّ الحج يتضمّن ذكراً كثيراً لله، يرافق أعمال الحج، من التلبية إلى الإفاضة إلى البيت الحرام، ومنه إلى عرفة والمزدلفة.

(وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) (1).

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)(2) .

كما أنّ عامة أعمال الحج، والالتزام بمحرمات الإحرام من الذكر العام، والذكر العام هو المقسم العام للذكر، ومنه يتفرع الذكر الخاص وهو الذكر باللسان.

روى الصدوق في معاني الأخبار عن حسين البزاز، قال: قال أبوعبدالله (ع): «ألا أحدثك بأشدّ ما فرض الله على خلقه؟ قلت: بلى. قال: إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك لأخيك، وذكر الله في كلّ موطن؛ أما إنّي لا أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».(3) و هذا هو قوله تعالى: (الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ).(4) و هذا هو الذكر العام، وهو أن يتذكر العبد ربه عندما يقدم على طاعة، أو يقدم على معصية، فيتذكر الله تعالى فيكفّ عن ذلك.


1- البقرة: 203
2- البقرة: 200
3- معاني الأخبار: 192، وسائل الشيعة 255: 15
4- الأعراف: 201

ص: 165

و في المحاسن عن الصادق (ع) في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: يابن آدم أذكرني في نفسك، أذكرك في نفسي، ابن آدم أذكرني في خلاء، أذكرك في خلاء، أذكرني في ملاء أذكرك في ملاء خير من ملاءك». و أعمال الحج ومحرماته يتضمّن الذكر العام بهذا المعنى ... وما من عمل يؤديه الحاج، أو محرّم يكفّ عنه الحاج، إلّا وهو يتضمّن ذكر الله.

و هذا الذكر في مقابل الغفلة عن ذكر الله، وغياب النفس عنه، وكلّما تتطلب الطاعة كدحاً أكثر، وكلّما يتطلب الكفّ عن المحرمات جهداً نفسياً أكثر، يتضمن الطاعة والكفّ ذكراً أكثر وأعظم لله تعالى، وهذا هو القيمة الرابعة للحج.

منازل الرحمة الزمانية والمكانية في الحج

و في المحاسن عن الصادق (ع) في الحديث القدسي: «قال الله تعالى: يابن آدم أذكرني في نفسك، أذكرك في نفسي، ابن آدم أذكرني في خلاء، أذكرك في خلاء، أذكرني في ملاء أذكرك في ملاء خير من ملاءك». (1) و أعمال الحج ومحرماته يتضمّن الذكر العام بهذا المعنى ... وما من عمل يؤديه الحاج، أو محرّم يكفّ عنه الحاج، إلّا وهو يتضمّن ذكر الله.

و هذا الذكر في مقابل الغفلة عن ذكر الله، وغياب النفس عنه، وكلّما تتطلب الطاعة كدحاً أكثر، وكلّما يتطلب الكفّ عن المحرمات جهداً نفسياً أكثر، يتضمن الطاعة والكفّ ذكراً أكثر وأعظم لله تعالى، وهذا هو القيمة الرابعة للحج.

منازل الرحمة الزمانية والمكانية في الحج

و القيمة الخامسة للحج، حضور العبد في منازل رحمة الله الزمانية والمكانية في الحج، وهو أعظم هذه القيم جميعاً ... وهي كثيرة.

منها: مواقيت الإحرام والتلبية، ومنها: البيت الحرام، والطواف، والسعي، والوقوفين، ومنى، والرمي، والنحر ... وأعظمها الوقوف بوادي عرفة، بعد الزوال من يوم التاسع من ذي الحجة، في أعظم جمهور لضيوف الرحمان على وجه الأرض كلها، في دورة السنة.

و هذا إجمال لابدّ له من تفصيل وتوضيح، فأقول: إنّ المنازل الزمانية والمكانية لشعائر الحج، من منازل الرحمة ... وهذان منزلان للرحمة.

المنازل الزمانية مثل يوم عرفة، وليالي التشريق، وعيد الأضحى.

و المنازل المكانية مثل المواقيت، والبيت الحرام، والحطيم، والمسعى، وصفا ومروة، وعرفة، والمزدلفة، ومنى.


1- المحاسن 39: 1

ص: 166

و يضاف إلى هذين المنزلين، المناسك التي يؤدّيها الحاج، فهي في حدّ ذاتها من منازل رحمة الله، مثل التلبية، والإحرام، والطواف، والسعي، والوقوفين، والبيوتة بمنى، والرمي، والنحر.

و هذا هو المنزل الثالث من منازل الرحمة في الحج.

و المنزل الرابع، الاجتماع العظيم للمؤمنين في الزمان الواحد، والمكان الواحد.

و الذين يعرفون رقائق أحكام هذا الدين، يعلمون جيّداً أنّ الله تعالى يحبّ إجتماع المؤمنين في عبادته وطاعته.

وتجمّع المؤمنين في الذكر والدعاء والعبادة وتلاوة القرآن، أقرب إلى الله وإلى رضوانه ورحمته، من الأداء الفردي للعبادات.

و قد يكون المجمع الذي يجمع المسلمين في العبادة الزمان، كما في صيام شهر رمضان، فإنّ شهر رمضان يجمع مآت الملايين من المسلمين في العبادة والطاعة من أقاليم شتّى من العالم.

و قد يكون المجمع الذي يجمع المسلمين في العبادة والطاعة المكان، كما في العمرة، فإنّ الحرم الشريف، والبيت الحرام، يجمع عشرات الملايين من المسلمين للعمرة، ولكن في أوقات مختلفة، وأشهر عديدة من السنّة.

و قد يجمع المسلمين، مكان واحد، وزمان واحد، لأداء الشعيرة العبادية ... ولانعرف لذلك شاهداً من العبادات في الإسلام في غير (الحج).

فإنّ الحج يجمع في كلّ عام عامّة المسلمين المستطيعين للحج في مكان واحد، وزمان واحد، لأداء فريضة الحج ... وهذا من أعظم منازل الرحمة في حياة الإنسان، ولا يشبهه منزل آخر من منازل الرحمة في حياة الناس، إلّا القتال في سبيل إليه.

و بذلك تجتمع منازل عديدة للرحمة في الحج من حيث المواقع المكانية،

ص: 167

والزمانية، والمناسك، والشعائر، و الاجتماع المليوني في مكان واحد وزمان واحد، ... وقمّة ذلك في وادي عرفة، يوم عرفة.

فإنّ الرحمة الإلهية تصبّ على وادي عرفة، يوم عرفة من غيرحساب، وتنزل على ضيوف الرحمان في سائر شعائر الحج.

و ليس في مقدور الإنسان أن يحصي البركات الربانية التي تنزل على ضيوف الرحمان من جانب الرحمان، في هذه المنازل التي أعدّها الله تعالى لضيوفه.

في هذه المنازل تنزل على الحجاج مواهب عظيمه من رحمة الله، تمنحهم البصيرة، والهدى، والنور، والاقبال على الله، والجدّ، والاهتمام، والعزم، واليقين، وحبّ الله، وحبّ أوليائه، وبغض أعداء الله، وأعداء أوليائه، والزهد في الدنيا وحطامها، والاقبال على الآخرة ونعيمها، وما لا أحصيه من مواهب الله تعالى في منازل رحمته في الحج.

باقة من الحديث

و إليكم باقة من الحديث الشريف في منازل الرحمة في الحج، أرجو أن ينفعنا الله بها.

منزلة الحاج عند الله في الجنة

قد ورد في منزلة الحاج عند الله في الجنة، إذا أحسن الحج، وأداه لوجه الله، خالصاً في النّية، وحج من نفقة طيبة محلّلة: إنّ الله تعالى ينزله في الجنة بجوار النبيين، والشهداء، والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً، وناهيك بهذه المنزلة الرفيعة منزلة في الجنة.

عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: «لما حج موسى (ع)، نزل عليه جبرئيل (ع) فقال له موسى (ع): يا جبرئيل! مالمن حج هذا البيت بنيّة صادقة ونفقة طيّبة؟

ص: 168

فأوحى الله تعالى إليه قل له: أجعله في الرفيق الأعلى مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً». (1)

في ضمان الله

و الحاج في ضمان الله تعالى، منذ أن يخرج من بيته، إلى أن يعود إلى بيته، يضمن له سعيه ونيّته، أتمّ الحج أو عرض له عارض منعه من إتمام الحج، أو مات فهو مضمون السعي والجهد والعزم.

عن رسول الله (ص): «الحاج في ضمان الله عزّوجلّ مقبلًا ومدبراً، فإن أصابه في سفره تعب، أو نصب، غفر له بذلك سيئاته ..».(2) و عن الإمام الصادق (ع): «الحاج والمعتمر في ضمان الله».(3) و عن الإمام الصادق (ع): «ضمان الحاج المؤمن على الله، إن مات في سفره أدخله الجنة، وإن ردّه إلى أهله لم يكتب عليه ذنب». (4) و عن رسول الله (ص): «من مات محرماً حشر ملبّياً». (5) و عن ابن عباس: إنّ رجلًا أوقصته راحلته، وهو محرم فمات، فقال رسول الله (ص): «إغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولاتخمروا رأسه، ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً».(6) و عن رسول الله (ص): «من مات في هذا الوجه (طريق الحج) من حاجّ أو معتمر، لم يعرض، ولم يحاسب، وقيل له ادخل الجنة». (7)


1- من لايحضره الفقيه 2: 236
2- كنز العمال 14: 5، ح 11840؛ الحج والعمرة في الكتاب والسنة: 161
3- المصدر السابق؛ الكافي 256: 2
4- المصدر السابق؛ بحار الأنوار 49: 96
5- المصدر السابق؛ كنز العمال 8: 5
6- المصدر السابق؛ مستدرك الوسائل 177: 2
7- المصدر السابق؛ الغدير 332: 5؛ كنز العمال 15: 5، ح 11848

ص: 169

ثواب الحج الجنة

قد استفاضت الروايات وفيها الصحاح والحسان، أنّ ثواب الحج الجنة، و لن يكون ثوابه دون الجنّة.

عن رسول الله (ص): «ليس للحجة المبرورة ثواب إلّا الجنة». (1) و عن رسول الله (ص): «العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما، والحجة المتقبلة ثوابها الجنة». (2) و عن رسول الله (ص): «ما سبّح الحاج من تسبيحة ولاهلّل من تهليلة ولا كبّر من تكبيرة إلّا بشر بها (الجنة) تبشيرة». (3)

أفضل الأعمال بعد الجهاد

و ليس بعد توحيد الله والجهاد، عمل أفضل من الحج.

سئل رسول الله (ص): أيّ الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور».(4) و عن الإمام الصادق (ع): «ما سبيل من سبل الله أفضل من الحج، إلا رجل يخرج بسيفه فيجاهد في سبيل الله حتى يستشهد». (5)

الدعاء المستجاب للحجاج

و قد أكرم الله تعالى الحجاج بالدعاء المستجاب، فليسأل ما يشاء، ولايُقَتِّر في السؤال، فإنّ المسؤول كريم، ومن أقبح اللؤم إذا كان المسؤول كريماً أن يكون السائل بخيلًا شحيحاً، مُقَتِّراً، في السؤال.


1- المصدر السابق؛ كنزالعمال 113: 5، ح 12286
2- المصدر السابق؛ مستدرك الوسائل 37: 8
3- المصدر السابق؛ الدر المنثور 210: 1
4- المصدر السابق؛ الدر المنثور 244: 1
5- المصدر السابق؛ مستدرك الوسائل 10: 8

ص: 170

عن رسول الله (ص): «الحجاج والعُمّار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم».(1)

نور الحج

و يترك الحج بصيرة في القلوب، ونوراً ظاهراً على الوجوه، هو نور الإيمان، والطاعة، والتقوى، والذكر، ولا يزال هذا النور على وجوه الحجاج، ما لم يذنبوا ... فإذا أذنبوا ذهب الله بنورهم.

عن الإمام الصادق (ع): «الحاج لايزال عليه نور الحج ما لم يلم بذنب». (2)

خير الدنيا والآخرة

و للحج بركات عظيمة للحاج في دنياه وآخرته.

عن رسول الله (ص): «من أراد الدنيا والآخرة، فليؤمّ هذا البيت، فما أتاه عبد يسأل الله دنيا إلّا أعطاه منها، ولا يسأله آخرة إلّا ادّخر له منها». (3)

غفران الذنوب

و لعلّ من أعظم بركات الحج ما تواترت به الروايات، وفيها الروايات الصحيحة: أنّ الله يغفر للحجاج ذنوبهم جميعاً، فإذا عادوا إلى بيوتهم وبلادهم، عادوا كهيئتهم يوم ولدتهم أمهاتهم، قد تحررّوا وتخلّصوا من ذنوبهم جميعاً.

روى المحدث الحرّ العاملي في موسوعته القيّمة- وسائل الشيعة- عن محمد بن


1- الحج والعمرة في الكتاب والسنة: 162؛ الدر المنثور 10: 1
2- الكافي 255: 4
3- بحارالأنوار 50: 96

ص: 171

علي بن الحسين، قال: روي أنّ «من أعظم الناس ذنباً، من وقف بعرفات، ثمّ ظنّ إنّ الله لم يغفر له».

و روى سفيان بن عيينة عن الإمام الصادق (ع) قال: «سأل رجل أبي بعد منصرفه من الموقف، فقال: أترى يجيب الله هذا الخلق كلّه؟ فقال أبي: ما وقف بهذا الموقف أحد إلّا غفر الله له، مؤمناً كان أو كافراً، إلّا أنّهم في مغفرتهم على ثلاث منازل: مؤمن قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وأعتقه من النّار ... ومنهم من غفر الله ما تقدّم من ذنبه، وقيل له: أحسن فيما بقى من عمرك ... وكافر وقف بهذا الموقف لزينة الحياة الدنيا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه إن تاب من الشرك فيما بقي من عمره ...».(1) و سأل الإمام الصادق (ع) رجل في مسجد الحرام: مَنْ أعظم الناس وزراً؟ فقال: «من يقف بهذين الموقفين: عرفة والمزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين، ثمّ طاف بهذا البيت، وصلّى خلف مقام إبراهيم، ثمّ قال في نفسه، وظنّ أنّ الله لم يغفر له، فهو من أعظم النّاس وزراً». (2) عن أبي حمزة الثمالي: قال رجل لعلي بن الحسين (ع): تركت الجهاد وخشونته، ولزمت الحج ولينته؟ قال: وكان متكئاً فجلس، وقال: «ويحك أمّا بلغك ما قال رسول الله (ص) في حجة الوداع؟ إنّه لما وقف بعرفة، وهمّت الشمس أن تغيب، فقال رسول الله (ص): يا بلال! قل للنّاس فلينصتوا، فلمّا انصتوا، قال: إنّ ربّكم تَطَوَّلَ عليكم في هذا اليوم، وغفر لمحسنكم، وتشفع محسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفوراً لكم». (3)


1- وسائل الشيعة 21: 10- 22، الباب 38 ح 8
2- المصدر السابق، ح 5
3- الكافي 258: 4

ص: 172

يرجع الحاج كهيئة يوم ولدته أمّه

و قد يكون من أعظم بركات الحج أيضاً، ما تواترت به الروايات، وفيها الروايات الصحيحة: أنّ الله يغفر للحجاج ذنوبهم، حتى إذا عادوا إلى بلادهم، وبيوتهم، رجعوا كهيئتهم يوم ولدتهم أمهاتهم.

عن رسول الله (ص): «حُجّوا، فإنّ الحج يغسل الذنوب، كما يغسل الماء، الدَرَن». (1)عن رسول الله (ص): «من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمّه». (2) و عنه (ص): «من خرج حاجاً يريد وجه الله، فقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وشُفّع فيمن دعا له». (3) و عنه (ص): «معاشرالناس، ما وقف بالموقف مؤمن إلّا غفر الله له ما سلف من ذنبه إلى وقته ذلك، فإذا انقضت حجته استؤنف عمله». (4)و عن الإمام الباقر (ع): «من أمّ هذا البيت حاجاً أو معتمراً مبرأ من الكبر، رجع من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمّه». (5) و عن الإمام الصادق (ع): «من حج يريد به الله، لايريد به رياء ولاسمعة، غفر الله له البتة».(6) و عن الإمام الصادق (ع): «إنّ العبد ليخرج من بيته، فيعطي قسماً، حتّى إذا أتى المسجد الحرام طاف طواف الفريضة، ثمّ عدل إلى مقام إبراهيم فصلّى


1- الحج والعمرة في الكتاب والسنة: 162؛ كنزالعمال 10: 5 ح 11821
2- المصدر السابق: 163؛ كنز العمال 7: 5 ح 11808
3- المصدر السابق؛ حلية الأولياء 235: 7
4- المصدر السابق؛ عن روضة الواعظين
5- المصدر السابق: 164؛ الكافي 252: 4
6- المصدر السابق: 164؛ وسائل الشيعة 76: 8

ص: 173

ركعتين، فيأتيه ملك فيقوم عن يساره، فإذا إنصرف ضرب بيده على كتفيه فيقول: يا هذا، أما ما مضى فقد غفر لك، وأما ما يستقبل فجد».(1)

الرواتب الثلاثة في العبادات

و يكفي أن نقول في حجم هذه المواهب والبركات، إنّ المخزون الذي يختزنه العبد في رحلة الحج يكفيه لرحلة العمر كلّها، إذا حرص وحافظ عليها.

ولابدّ من توضيح لهذه الكلمة، فنقول: إنّ العبادات على نوعين:

النوع الأول: عبادات مرتبات على عمود الزمان بفواصل زمانية متفاوتة، كالصلاة وصيام شهر رمضان.

النوع الثاني: عبادات مجعولة حسب الحاجة والضرورة، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، وإغاثة المؤمنين ونجدتهم.

والنوع الثاني من العبادات، تفرضها الحاجة الموضوعية في واقع حياة النّاس.

أمّا النوع الأول من العبادات، فهي التي يحتاجها الإنسان في حركته التكاملية إلى الله ... ولذلك فإنّ الله تعالى يفرضها على النّاس في كلّ الظروف، مثل الصلاة، والصوم، والحج، وهي التي نقصدها من (الرواتب)، وهي العبادات التي يحتاجها الإنسان لتكامله النفسي، والروحي، والعقلي، بغضّ النظر عن أية ظروف موضوعية وفي كلّ الظروف، وهي على أقسام حسب حاجة الإنسان إليها.

فمن الرواتب ما يحتاجه الإنسان في كلّ يوم عدّة مرات، وهي الصلاة، فهي حاجة مستمرّة متصلة يحتاجها الإنسان في نموّه وتكامله وحركته إلى الله ... وإذا انقطع الإنسان عنها توقف نموّه وتكامله.

وتوقّف الإنسان عن حركة التكامل، بمعني التراجع، ولا يسعنا الآن شرح


1- المصدر السابق؛ الكافي 257: 4

ص: 174

هذه النقطة.

و من الرواتب ما يحتاجه الإنسان كلّ سنة مرّة، وهو صيام شهر رمضان في كلّ عام، فإنّ هذه الفريضة الرتيبة تتكرر على الإنسان في كلّ عام مرّة واحدة، شهراً كاملًا.

و من الرواتب ما يحتاجه الإنسان في العمر مرة واحدة- بالضرورة- وماعدا ذلك يخرج عن دائرة الضرورة، ويدخل في دائرة الندب، وهو الحج؛ فإنّ الحج يجب على المرء مرة واحدة في العمر.

و معنى ذلك أنّ الخزين النفسي الذي يكتسبه الحاج في رحلة الحج يكفي لرحلة العمر كله، إذا حافظ عليه الحاج، ولم يهدره، وأنّ التعبئة الروحية والنفسية والسلوكيّة الّتي يكتسبها الحاج في هذه الرحلة، تعبئة عالية يكفي لرحلة العمر كلّها، إذا حافظ عليها الحاج، وحرص على تنميته.

كيف يتناقص خزين الحج في ساحة الحياة؟

إذن البحث عن الوسائل التي تمكّن الحاج من المحافظة على المكاسب التي كسبها في الحج، من المسائل الضرورية التي لابدّ أن يعرفها الحاج بعد العودة من الحج.

ومن الضروري أن نتساءل، ونعرف كيف يحافظ الحاج على هذه الذخيرة الغالية التي اكتسبها في الحج، عند ما يعود إلى بلده، وداره، وأسرته، ويعود إلى السوق، وينزل إلى الشارع، ويختلط بالنّاس، ويعاشرهم، ويدخل فيما يدخل فيه النّاس من شؤون دنياهم.

فما أكثر الذين أهدروا هذه الثروة العظيمة التي اكتسبوها في الحج، في أقل من شهر، بعد أن عادوا إلى بلدهم، وأهلهم، وعشائرهم، وتجارتهم، وأعمالهم التي يمارسونها، لإدارة معيشتهم في الدنيا، وعلاقاتهم الاجتماعية.

ص: 175

و الشيطان إذا فشل في إفشال دور الحج وتأثيره العظيم في تكامل الحاج، وتعبئته النفسية العالية التي تبلغ ذروتها في (عرفة)، فإنه يتحوّل إلى الدور الثاني لإحباط مكاسب الحج عند ما يعود الحاج إلى حياته المألوفة في (البيت) و (الشارع) و (السوق)، وهي المراكز الثلاثة لحضور النّاس في الحياة الدنيا.

و نقصد بالبيت، الحياة العائلية التي هي أحد أركان حياة الإنسان، ونقصد بالشارع، العلاقات الاجتماعية (العلاقات العامة)، ونقصد بالسوق، العمل الذي يدر معيشة الإنسان في السوق، أو في الحقل، أو في المصنع، أو في دوائر الدولة، في البر أو البحر.

ولهذه المراكز الثلاثة دور كبير في إستهلاك الخزين النفسي الذي يختزنه الحاج في الحج، وإحباط الحالة التعبوية النفسية العالية، التي يكتسبها في هذه الرحلة.

إنّ الشيطان يبذل جهداً كبيراً لتسريب خزين الحج، في تعامل الحاج في البيت، والسوق، والشارع، مع أهله، ومن خلال تجارته، وعلاقاته الاجتماعية؛ تماماً كما تتسرّب الحرارة عند ما تكون في وسط بارد فاقد للحرارة، في الأجسام الصلبة، وفي السوائل والغازات، ما لم يحفظ الحرارة جدار عازل، يحفظ الحرارة من التسرّب.

و لايتصور أحدٌ أننا ندعوا إلى أن يعتزل الحاج بيته، وتجارته، وعلاقاته الاجتماعية، عند ما يعود من الحج، فليس هذا من دين الله في شي ء ... بل العكس هو الصحيح ... فإنّ الحياة العائلية، والعمل، والتجارة، والعلاقات الاجتماعية، مما يدعو إليه الإسلام دعوة حثيثة.

و إنّما الذي ندعوا إليه بشكل دقيق، هو أن نعرف كيف يحافظ المرء على خزين الحج، وتعبئته النفسية العالية في وسط المراكز الثلاثة التي عددناها آنفاً،

ص: 176

دون أن يعتزلها، أو يقاطعها؟

فإنّ هذه المقاطعة والاعتزال، ليس من دين الله إطلاقاً.

كيف نحافظ على مكاسب الحج؟

اشارة

و الآن نطرح الاجابة على هذا السؤال، في دراسة موجزة إن شاء الله، فأقول:

إنّ أهمّ العوامل الواقية التي تحفظ الإنسان، وتحفظ له ما اكتسبه في الحج من التسرّب والاستهلاك في ساحات الحياة الثلاثة، هي التقوى والذكر، وإليك تفصيل ذلك.

1- التقوى

اشارة

التقوى هو اللباس العازل الذي يحفظ الإنسان من عوامل البيئة، والوسط الموضوعية من الفتن والمغريات، ومن العوامل النفسية، داخل النفس، من الشهوات والأهواء، ومن دور الشيطان في إثاره الأهواء والشهوات تجاه الفتن والمغريات، وتجميل الفتن والمغريات تجاه الأهواء والشهوات، وهذا هو الدور الرئيسي للشيطان في إغواء الإنسان وتسقيطه، وهو دور الوساطة بين الأهواء والفتن، (دور السمسار).

و التقوى هو اللباس العازل الذي يحفظ الإنسان من ثلاثية الابتلاء (الأهواء- الفتن- الشيطان) دون أن يعتزل الإنسان حياته العائلية، وعلاقاته الاجتماعية، وعمله، وتجارته، وحركته الاقتصادية.

و ما من عامل يقوى على حماية الإنسان من ثلاثية الابتلاء مثل (التقوى).

و التقوى هو ضبط النفس عند الحدود الّتي حدّدها الله تعالى لعباده.

و قد أفاد الحج الحجاج ضبط النفس بدرجة عالية، وبمقاييس واسعة وكبيرة في محرمات الإحرام، منذ لحظة التلبية إلى أن يخرج من حالة الإحرام.

و إذا كان الحاج قد تحلّل من محرمات الإحرام بعد السعي، وطواف النساء (الوداع)، فإنّ خزين التقوى وضبط النفس الذي اكتسبه الحاج في هذه الدورة

ص: 177

المكثفة يبقى معه.

و التقوى خير ما يحفظ الحاج بعد عودته من الحج، و يحفظ له ما اكتسبه في الحج من معرفة الله، وحاله القرب إلى الله، والبصيرة، وشفافية القلب، وقوة النفس، والعزم في طاعة الله، والاخلاص لله، والإخبات إليه، وذكر الله، وحالات الأنس بذكر الله، والشوق إلى لقاء الله، وحبّ الله، وما لا أحصيه من مكاسب الحج العظيمة.

فإنّ الإنسان ما لم يتلوّث بالذنوب والمعاصي، والانشغال بالدنيا عن ذكرالله تبقى له هذه المواهب، ولا يفسدها شي ء مثل (الذنوب) و (الانشغال بالدنيا عن ذكر الله).

و التقوى يحفظ الإنسان من الذنوب، وهو الشطر الأول من الطريق الصعب.

والشطر الثاني من هذا الطريق هو ذكر الله الذي يحفظ الإنسان من أن تلهيه الدنيا عن ذكر الله وهو قوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسيتَ) (1)، فإنّ الذكر يحفظ الإنسان من نسيان ذكر الله والذكر يحفظ الذكر وسوف نتحدث عنه إن شاء الله، فيما يأتي من هذا الحديث.

فإذا التزم التقوى، يحفظ له التقوى شطراً كبيراً من المواهب التي كسبها في الحج.

مراقبة التقوى

و التقوى، كما يقول الله تعالى: لباس، (وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ)، وكما يحفظ اللباس صاحبه من الحرّ، والبرد، ومن الأذى، وعيون الناس، ويستر له عوراته و سوءآته، كذلك التقوى يحفظ الإنسان من ثلاثية الابتلاء (الفتن والمغريات- الأهواء والشهوات- الشياطين).


1- الكهف: 24

ص: 178

و يحفظ له عورات نفسه و سوءآته، فإنّ للنفس الإنسانية عورات، كما للجسم، ويستر التقوى عورات النفس، كما يستر اللباس عورات الجسم.

و لكن، كما يحفظ اللباس صاحبه، كذلك يحفظه صاحبه من الوساخة والتمزق.

و هذا هو الدور المتبادل بين الإنسان واللباس، في الحفظ والصيانة.

كذلك العلاقة بين (الإنسان) و (التقوى)، فإنّ (التقوى) يحفظ صاحبه من الانحراف، والسقوط، والذنوب، والمعاصي، وهو دور وقائي عظيم لا مندوحة عنه للإنسان في سلامة الروح والنفس والعقل.

... وفي المقابل يجب على الإنسان أن يراقب عامل (التقوى) في نفسه وسلوكه، لئلا يضعف أو يختل ... ولكي تؤدي التقوى دورها في المحافظة على الإنسان، لابدّ للإنسان أن يراقب التقوى، ويحافظ عليها، ومن دون ذلك لايسلم له التقوى.

يقول أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، في هذا الدور المتبادل بين الإنسان والتقوى: «ألا فصونوها وتصوّنوا بها».(1) وهي كلمة دقيقة وعميقة ... فلكي يصون الإنسان نفسه بالتقوى، لابدّ أن يصون التقوى نفسها ويراقبها.

أهمّ آليات مراقبة التقوى:

1- المحاسبة، والمراقبة المتصلة.

2- الوعظ والتذكير.

3- ذكر الله، وذكر الموت.

4- مرافقة الصالحين ومجالستهم، وحضور مجالسهم.


1- نهج البلاغة، الخطبة: 191

ص: 179

2- الذكر

اشارة

العامل الآخر للمحافظة على مكاسب الحج، ذكر الله تعالى ضمن برنامج منظم ... وهذا الذكر يشمل نوافل الصلاة، وبشكل خاصّ النوافل الليلية (صلاة الليل) وقراءة القرآن، والدعاء، والأوراد، والأذكار الواردة في الليل والنهار، ولو خلال فترة العمل، والالتزام بتعقيبات الصلاة، والاهتمام بحضور الجماعة، والتعهد بالأدعية الواردة ليلة الجمعة، ويوم الجمعة، وسائر أيّام الله في السنة.

إنّ الالتزام بهذه الأبواب من الذكر، يفتح منافذ القلب على الله تعالى، ويبعث فيه النور، والبصيرة، والشفافية، ويقرب الإنسان إلى الله، ويمنح الإنسان اليقين، والعزم، والقوة في طاعة الله، والأنس إلى ذكر الله، والشوق إلى لقاء الله، وحبّ الله، والإنابة إلى الله، والخشية والرجاء من الله، وما لا أحصيه من المواهب التي جعلها الله في الذكر.

و من أعظم هذه المواهب، إنّ ذكر الله يحفظ الإنسان من أن تشغله الدنيا وتلهيه عن الله ... وهذا هو الشطر الثاني من الطريق الصعب الذي ذكرناه آنفاً في السعي إلى الله.

فإنّ أعظم حجابين يحجبان العبد عن الله تعالى، هو الذنوب والمعاصي أولًا،

و التعلّق بالدنيا ثانياً.

و لمكافحة هذين العاملين قلنا:

إنّ (التقوى) هو الشطر الأول من الطريق الصعب، يحفظ الإنسان من الذنوب والمعاصي الحاجبة عن الله؛ و (الذكر) هو الشطر الثاني من هذا الطريق، يحفظ صاحبه عن الدنيا ودورها المغري في إلهاء الإنسان، وانشغاله عن الله.

ص: 180

المداومة

و لا يؤتي الذكر ثماره في حياة الإنسان، ما لم يواصله الإنسان زمناً طويلًا في حساب العمر.

و قد روي عن أميرالمؤمنين (ع): «قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه». (1) إنّ بركات الذكر لاتظهر مرة واحدة، كما هو الحال في أغلب سنن الله تعالى في الكون، وإنما تظهر بصورة تدريجية.

و لكي يكتسب الإنسان بركات الذكر، لابدّ له من مواصلة الذكر ومداومته.

المراقبة والمدوامة

و الغاية هنا من التأكيد على (مراقبة) التقوى و (مداومة) الذكر، هي أن يتحوّل التقوى والذكر في حياة الإنسان إلى ملكة راسخة ثابتة.

فما لم يتحول التقوى والذكر في حياة الإنسان إلى ملكتين راسختين، في النفس ثابتتين، فهما معرضان لأخطار وتهديدات كثيرة من جانب ثلاثية الابتلاء التي شرحناها من قبل.

في ضيافة الرحمن ؛ ؛ ص180

ذا تحولتا بالمراقبة والمداومة، إلى حالة ثابتة وراسخة في النفس، واستحكمتا في النفس، فلا يخاف عليهما عندئذ من تحديات (الأهواء) و (الفتن) و (الشياطين) ويتحوّل التقوى والذكر عندئذ من حالة رجراجة غير ثابتة، إلى ملكة ثابتة وراسخة في النفس ... وعندئذ تثبت مكاسب الحج في نفس الإنسان.

***


1- وسائل الشيعة 118: 1

ص: 181

تجليات الأمة الواحدة في مشاهد الحج

اشارة

ص:182

ص: 183

تجلّي الأمّة الواحدة وظهورها في الحج واحدة من أعظم منافع الحج (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) ( (1))، ولا نعرف مشهداً للأمّة الواحدة أعظم وأروع مما نشاهده الحج.

هنالك يشهد المسلم الأمة الواحدة بكل تجلياتها، من اسقاط الفوارق وملأ الفواصل والفجوات والوقوف جميعاً في موقف واحد وفي وقت واحد.

وهذه المشاهد التي تتكرر كلّ سنة، ويحضرها نخبة من المسلمين من كلّ فجّ عميق ... تعتبر أفضل تجسيد للأمة الواحدة، التي تضيع أحياناً وتختفي بسبب تراكم الخلافات الذهبية والوطنية.

وأوّل ما يتجلّى هذا المشهد التوحيدي والوحدي العظيم في (الميقات) حيث ينتزعهم الميقات من أزيائهم الوطنية ويلبسهم لباساً موحداً في غاية البساطة، وبعيداً عن مظاهر الترف، ثمّ يوحّد الميقات خطابهم الرباني «لبّيك اللهم لبّيك، لبيك لا شريك لك لبّيك»، وهذا هو الخطاب التوحيدي والوحدوي الذي يرفعه الحجاج جميعاً في الميقات ... يوحّد الميقات خطابهم الذي هو جوهر هذه العبادة وهي (التوحيد) ويوحّد مظهرهم، وينتزعهم من حالة التشتت في الخطاب، وتمايز المظاهر والأزياء، فيكون مثل الميقات مثل جداول متمايزة من أقاليم شتى، تدخل في الميقات وكأنه نهر عظيم من الحجاج، يقبلون على الله بمظهر واحد، وخطاب


1- الحج: 28

ص: 184

واحد، وغاية واحدة، حتّى يَصُبّ هذا النهر في بحر عظيم من الناس بجوار بيت الله الحرام، لا تكاد تميز فيه العراقي عن اليماني، واليماني عن الجزائري، و الجزائري عن الإيراني، والتركي.

ثم يأتي دور الكعبة الشريفة في توحيد هذه الأمة وإخراجها إخراجاً واحداً.

وللكعبة المعظمة دوران في توحيد هذه الأمة (القبلة والطواف)، وكلّ واحد من هذين الدورين يوحّد جبهة هذه الأمة العظيمة، المتفرقة في بلاد شتّى من القارّات الخمسة.

إنّ (القبلة) ترمز في حياة المسلمين إلى أمرين على أعلى درجات الأهمية، ترمز (القبلة) إلى توجيه الإنسان وجهه إلى الله في كل حالاته، (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (1).

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ)(2) .

وعندما يوجّه الإنسان وجهه إلى نقطة معيّنة، فإنها سوف تحدّد مساره وخط حركته بشكل قطعي، كما كان يجعل أهل البادية في البر، والبحّارة في البحار النجوم بين أعينهم، ليحدّدوا بذلك خط حركتهم في البوادي والبحار، قبل أن يعرفوا نظام البوصلة.

فإذا جعل الإنسان (الله) تعالى وجهته، وتوجّه إليه بوجهه، وجعله غاية لحركته، فإنّ هذه النقطة الغائية في تحركه التي جعلها وجهته وفي قبالته سوف تحدّد له خط حركته ومساره في الحياة الدنيا، وهو الصراط المستقيم الذي يهديه إلى الله تعالى، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من عباده: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).


1- الأنعام: 79
2- آل عمران: 20

ص: 185

وترمز (القبلة) ثانياً إلى توحيد جهة حركة المسلمين جميعاً إلى الله، بهذا الاتجاه، فإنّ (القبلة) توجّه عامة المسلمين إلى نقطة الكعبة في اليوم خمس مرات على أقل التقادير.

إذن القبلة ترمز أولًا إلى توجيه الإنسان المسلم إلى الله في حركته، على الصراط المستقيم.

وترمز ثانياً إلى توحيد المسلمين عامة في هذا الاتجاه الرباني في الحركة.

وخلاصة القول: إنّ القبلة ترمز إلى الاستقامة على الصراط المستقيم إلى الله تعالى، وتوحيد حركة المسلمين جميعاً على هذا الصراط.

و يرمز (الطواف) إلى حركة التوحيد على وجه الأرض وفي التاريخ، كما يرمز إلى اجتماع الموحّدين لله، بهذا الاتجاه التوحيدي في التاريخ والمجتمع.

فإنّ هذه الحركة الاستداريّة حول مركز الكعبة ترمز- والله العالم- إلى الحركة التوحيدية للإنسان.

فلاينحرف الطائف عن مركز الكعبة، في كل دائرة الطواف، بكتفه الأيسر على امتداد هذه الدائرة، بينما يتحرك كتفه الأيمن في كل الاتجاهات، من دون إستثناء، والدائرة التي يطويها الكتف الأيمن للطائف 0360، وهي دائرة كاملة لاتخرج عنها جهة من الجهات على الاطلاق، وهي إشارة رمزية- والله العالم- إلى أنّ بإمكان الإنسان أن يحافظ على توحيد الله بالعبادة، والاستعانة، والطاعة، والعبودية في كل حركته الواسعة في الدنيا، في كل حقول الحياة، في حركته، وخطابه، ومواقفه، وعمله، من دون استثناء، (إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)، ليس فقط في صلاته و نسكه، وإنما في محياه ومماته أيضاً.

وفي نفس الوقت ترمز الكعبة إلى تجميع المسلمين على توحيد الله تعالى في العبادة، والعبودية، والاستعانة، والاخلاص، والدين، والطاعة، والولاء.

ص: 186

وهكذا تتّصل تجلّيات الأمة الواحدة في مشاهد الحج الكبرى من الميقات إلى الطواف، ومن الطواف إلى السعي، ومن البيت الحرام إلى عرفة، حيث يجتمع ملايين المسلمين في وادي عرفة، توحّدهم عرفة، وتوجههم إلى الله تعالى بالدعاء والصلاة، وتصفيهم من كلّ ذنوبهم، بلا استثناء إلّا الشرك، والقتل، وحقوق الناس، والبدعة في دين الله، فإنّها لا تغتفر.

ويفيض الحجاج من عرفة إلى المشعر الحرام، وقد تركوا وراءهم ركام ذنوبهم ومعاصيهم في هذا الوادي الشريف.

ثم مشهد المشعرالحرام ومشاهد رمي الجمرات في وادي منى، وهو يرمز إلى جهد جمعي من جانب الحجاج كلهم لإقصاء الشيطان عن حياتهم، ورجمه، وإبعاده منهم.

ثمّ يأتي في نهاية هذه الجولة الصعبة من الميقات إلى منى «العيد الأكبر» الذي يحتفل به الحجاج جميعاً في منى، وفي رحاب بيت الله، وهو عيد الأضحى المبارك.

يوحّدهم في فرحتهم بنجاحهم في إقامة هذه الفريضة الصعبة في هذا البلد الذي اختاره الله لبيته الحرام.

إنّ أبرز شي ء في الحركة العظيمة من الميقات إلى منى أمران: (توحيد) الله تعالى بالعبادة؛ و (توحيد) حركة الأمة على خط توحيد الله؛ ولا يحسّ الإنسان بهذه الأمة المباركة العظيمة، كما يحسّ بها في مشاهد الحج العظيمة.

و كما يوحّد الحج خطاب هذه الأمة، وحركتها، ومظهرها، ومضمونها، كذلك يوحّد جهد هذه الأمة في مكافحة العوامل المعيقة، لوحدة الأمة، والفتن الطائفية التي تجعل من هذه الأمة الواحدة، أمماً شتى متقاطعة ومتنافرة، على خلاف ما يريده الله تعالى من عباده المؤمنين.

ص: 187

الإضاءات الثلاثة في طريق وحدة الأمة

اشارة

إنّ مكافحة الفتن الطائفية، والسعي إلى التقريب، والتفاهم، والتضامن، والتعاون بين المسلمين، من ثوابتنا السياسية والحضارية والاقتصادية.

وتدخل في تكوين الأمة الإسلامية الواحدة، ومن دونه لا تتحقّق الأمة الواحدة التي جعلها الله أمة وسطاً، وشاهدة على سائر الأمم.

ويتوقف عليها، إنتصارنا في المعترك السياسي، والحضاري، والثقافي، والعسكري، ومن دونها لا يتحقق النصر الذي نسعى إليه في مسيرتنا السياسية والثقافية.

وتتوقف عليها حركتنا الثقافية والعلمية .. فإنّ التقاطع الطائفي، والعزلة والانكفاء على الذات، يؤدي بالضرورة إلى الضمور الثقافي والعلمي، وبعكس ذلك التواصل، واللقاء، والحوار الإيجابي، يؤدي إلى التكامل العلمي والثقافي في حوزاتنا وجامعاتنا العلمية.

إنّ هناك ثلاث قضايا رئيسية، لابد فيها من الوعي والوضوح:

ولابد من السعي لنشر وعي سياسي- ثقافي، تجاه هذه النقاط في أوساط الجمهور.

وهذه النقاط هي:

1- الأمة الواحدة.

2- الصراع الحضاري الذي تخوضه هذه الأمة.

3- ضرورة الترافد الثقافي والعلمي في أوساط هذه الأمة.

و إليك الإيضاح السريع التالي لهذه النقاط الثلاثة:

1- الأمة الواحدة

هذه الأمة أمة واحدة، وليست أمماً شتى.

وقد ورد هذا المعنى بصراحة في آيتين من القرآن يقول تعالى:

ص: 188

(إِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَ أنا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ( (1)).

(وَإِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ( (2)).

وليس معنى وحدة الأمة التطابق الكامل في الرأي والاجتهاد، فإنّ ذلك مما لايكون .. وإنما معنى ذلك الاتفاق والتفاهم على الأصول والانسجام والتفاهم والتعاون على المواقف السياسية، وتوحيد الولاء والبراءة والطاعة والنصرة.

2- الصراع الحضاري

سواءاً أردنا أم لم نرد، نحن ندخل اليوم في صراع حضاري عسير ... والمواجهة العسكرية شكل من أشكال التعبير عن هذا الصراع.

وهذا الصراع صراع شرس .. وخصومنا في هذا الصرع جبهة واحدة، مهما تعددت توجهاتهم.

وليس من الصدفة أن تتفق أمريكا والاتحاد الأوربي على دعم إسرائيل في كل أعمالها العدوانية تجاه المسلمين، وأن تقف إلى جانبها من غير أن تأخذ بنظر الاعتبار حاجتها إلى المسلمين، وعلاقاتها الاقتصادية الواسعة بالعالم الإسلامي.

نحن نواجه اليوم صراعاً حضارياً، سياسياً، اقتصادياً، عسكرياً، من أشرس ما يكون الصراع، وإذا خسرنا الحرب في هذه المعركة المصيرية، فسوف نعود مرة أخرى إلى دورة جديدة من التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية للغرب التي طالتنا من بعد سقوط الدولة العثمانية إلى اليوم.

والانتصار والهزيمة في هذا الصراع- في كل أبعاده- قضية مصيرية في حضارتنا وتاريخنا؛ ولا نشك إننا نكسب هذا الصراع إذا واجهنا خصمنا أمة واحد، وصفاً


1- الأنبياء: 92
2- المؤمنون: 52

ص: 189

واحداً، وموقفاً واحداً، وذلك أنّ يد الله تعالى مع الجماعة وعلى الجماعة، وإذا كانت يد الله معنا فلا يتخطانا النصر بإذن الله.

ولا نشك أنّا إذا واجهنا خصومنا مقتسمين على أنفسنا، متقاطعين في مواقفنا وإرادتنا، متخالفين في توجهاتنا، فلا نكسب هذا المعترك الحضاري الصعب.

3- الترافد الثقافي

الترافد الثقافي من نتائج التقريب بين المذاهب الإسلامية ومن عوامله في نفس الوقت ...

وقد كان علماء المسلمين وطلبة العلم يتوافدون على مدارس فقهية من مذاهب واتجاهات مختلفة، وكانوا يتبادلون الإجازات في رواية الحديث، فكان طلبة العلم من العراق، ومعظمهم من الشيعة يفدون إلى الحجاز ومصر والشام ومعظمهم من أهل السُنة، وكان يفد إلى العراق، على مدرسة الحلة، وهي حوزة شيعية عريقة، طلبة من الحجاز، ومصر، والشام، والمغرب العربي للدراسة، كما كان لعلماء المسلمين زيارات للأقاليم الإسلامية، وكان طلبة العلوم الدينية يلتمسون منهم أن يلقوا عليهم دروساً في الفقه والأصولَين (أصول الفقه وأصول العقائد).

واليوم تحتضن الحوزة العلمية في قم، وهي حوزة علمية عريقة تابعة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) طلبة العلوم الدينية من أكثر من مائة قُطْر في العالم من القارات الخمسة، وجملة من هؤلاء الطلبة الوافدين إلى هذه الجامعة من أهل السنة، و لايجدون حرجاً في الدراسة في حوزة شيعية، كما لا تجد هذه الحوزة حرجاً أن تحتضن طلبة من المدارس، والاتجاهات الفقهية الأخرى، وتجري دراسة فقه المذاهب الإسلامية الأربعة في هذه الحوزة كما تجري دراسة الفقه الإمامي.

ولهذا الترافد الثقافي والعلمي أثر بالغ في التكامل العلمي والثقافي في المراكز

ص: 190

العلمية الإسلامية.

فإنّ الجهود العلمية، والثقافية المختلفة، عندما تلتقي مع بعض على صعيد موضوعي، علمي، غير متشنّج، يكون هذا اللقاء سبباً للإثراء والتكامل العلمي والثقافي لكل من هذه الروافد العلمية والثقافية، ويؤدي هذا الترافد إلى التقارب والتعارف بين المذاهب المختلفة، كما أنّ التقارب والتعارف بين هذه المذاهب يؤدي بالضرورة إلى الترافد العلمي والثقافي.

إنّ ظاهرة الترافد تؤدي إلى مكافحة وإبطال الفتن الطائفية .. والعكس أيضاً صحيح، فإنّ الفتن الطائفية تقلّل من فرص الترافد الثقافي، وتحوّل الثقافة والعلم إلى دوائر مغلقة غير مترابطة، وهذه الحالة من أسباب ضمور العلم والمعرفة دائماً.

وعلى كلّ حال، ظاهرة الترافد الثقافي ظاهرة مباركة في حياة هذه الأمة، يجب أن نستعيدها، ونجدّدها، ونشجعها، وندعمها، وهي من أفضل وسائل علاج الفتنة.

وفيما يلي سوف نتحدث إن شاء الله عن ثلاثة من أبرز النقاط التي تساهم في علاج الفتنة الطائفية وإخمادها، وهذه النقاط الثلاثة هي:

1- الوعي والخطاب

2- اللقاء والحوار

3- العمل المشترك

وإليك تفصيل هذه النقاط:

أولًا: الوعي والخطاب

اشارة

الفتنة الطائفية، كأية فتنة أخرى، تنشأ وتنمو في غياهب الجهل والجهالة .. والفتن في حياة الناس كثيرة، وكلها تتكون وتظهر وتنمو في ظلمات الجهل.

وأفضل العلاج لها ولأمثالها من الفتن هو المعرفة والوعي، فإنّ النور يكسح

ص: 191

الظلمة، والمعرفة والوعي نور يزيل ما يعترضه من الظلمات، والفتن تراكم من الظلمات بعضها فوق بعض.

الوعي والتقوى

إنّ تحصين المجتمع من الفتن يتم بعاملين اثنين مع بعض، وهما عامل التقوى والمعرفة، فإذا اجتمعتا فأنهما يحصّنان المجتمع من أمثال هذه الفتن.

ومهما واجهنا فتنة من هذه الفتن التي تمحق دين الناس، وتثير الشغب والفوضى، وتحرق الأخضر واليابس، فلابدّ أن يكون من وراء هذه الفتنة عجز في (التقوى) أو (الوعي) أو فيهما معاً.

فهما يحصّنان المجتمع من كل فتنة، ويمنحان صاحبهما بصيرة وفرقاناً، إذا ادلهمت الخطوب والظلمات على الناس.

الوعي السياسي

ومن أهمّ وجوه الوعي اليوم الوعي السياسي، فإنّ عامل الاستكبار العالمي، والمخابرات، والمنظمات الجاسوسية العالمية، تكمن خلف هذه الفتن.

والمؤسسات الإعلامية (الصحف والفضائيات ودور النشر) تبثّ هذه الفتن بين الناس، وتقوم بتأجيج حرائق الفتنة الطائفية بين المسلمين.

وتجد أنظمة الاستكبار العالمي في هذه الفتن الطائفية، فرصة ذهبية لبسط نفوذها في العالم الإسلامي، وتمكّنها من أسواق المسلمين، ومصادر الثروة النفطية، والمعدنية، والمائية، والزراعية في العالم الإسلامي ... وسوف نبسط الحديث في هذا الجانب إن شاء الله.

و الأداة المفضّلة لمواجهة هذه الفتن هي الوعي السياسي الذي يمكن الناس من معرفة خلفيات هذه الفتن وجذورها، والمنظمات الجاسوسية التي تخطط لها هناك

ص: 192

في الغرب، عبر المحيطات.

و من واجب العلماء والخطباء والمثقفين الإسلاميين نشر الوعي السياسي بين الناس، وتمكين الناس من إختراق الغطاء الإعلامي، وتمكينهم من الدرك الصحيح لما يحصل في الساحة العالمية من فنون اللعبة السياسية، وتحذير الناس من أن يكونوا ضحايا هذه اللعب، والخطط التي تنتجها باستمرار العقلية الغربية، تجاه العالم الإسلامي.

وعي الجمهور

ولست أعني ب- (الوعي السياسي) هنا وعي النخبة، ولست أنفي ضرورة الوعي السياسي عند النخبة، وأهميتها، ولكن وعي النخبة لا يغني عن وعي الجمهور، وإذا حلّ الوعي في الشارع الذي يتحرك فيه الجمهور، وتسلّح الجمهور بالوعي، لم تعد هذه اللعب السياسية، والفضائيات المضلّلة قادرة على تضليل الناس، وتفجير الفتن في وسط الناس، كالذي يحصل اليوم في العراق وفي باكستان وفي بعض الأقطار الإسلامية.

فإنّ الوعي عندما ينزل إلى مستوى الشارع ويثقف الجمهور يحصّنه من أمثال هذه الفتن ... والجمهور الذي يمتلك درجة عالية من الوعي السياسي يمتلك درجة عالية من الحصانة تجاه العوامل الإعلامية والسياسية المضللة، وبالضرورة لاتحتوشه الفتن.

والجمهور غير الموجّه، وغير الراشد، هو الوسط الخصب، والتربة الصالحة لأمثال هذه الفتن؛ وعن طريق التوعية، والتثقيف السياسي، يمكننا أن نحافظ على سلامة الجمهور ورشده.

والجمهور كما هو تربة صالحة للفتن والضوضاء، كذلك هو وعاء صالح للوعي،

ص: 193

والعقل، والسداد، والتقوى .. ويمتلك أعماقاً سليمة من الفطرة، لم ينفذ إليها الفساد، والقادة الحقيقيون هم الذين يدركون هذا العمق الفطري السليم للجمهور، ويقودون الجمهور إلى صراط الله المستقيم والتقوى، ويحذرونه من مغبّة الوقوع في أمثال هذه الفتن، ويفلحون في ذلك.

إنّ الثقة بالجمهور، وكفاءاته الكثيرة، وسلامة فطرته، هو رأس مال أولئك القادة الذين يعرفون كيف يخاطبون الجمهور، وكيف يكسبونه .. بعد الثقة بالله تعالى، و الاعتماد عليه، والاطمئنان إلى وعده بالنصر، وتأييده للقلّة المؤمنة، في مواجهة أمثال هذه الفتن والتحديات.

الوعي والخطاب

ولابد للوعي من خطاب، كما أنّ للتضليل السياسي خطاب، ولإثارة الفتنة بين الناس خطاب، ولتغرير الناس، وتجهيلهم، وتسطيح عقولهم خطاب، كذلك للوعي خطاب.

ولغة هذا الخطاب لغة العقل، وهي اللغة المفضّلة في خطاب الوعي ... إنّ العاطفة جزء ضروري من خطاب الجمهور لاشك في ذلك، ولكن من الخطأ الاقتصار على العاطفة في خطاب الجمهور .. ولابد من استخدام لغة العقل في خطاب الناس، إلى جانب لغة العاطفة، ولابد أن تكون لغة العقل هي الحاكمة وهي الأصل، ولغة العاطفة تأتي في امتداد لغة العقل، ولإسناد العقل عندئذ يكون الخطاب العاطفي خطاباً صالحاً للجمهور ... وأمّا عندما يتمحّض خطاب الجمهور في الخطاب العاطفي، فلا يكون مثل هذا الخطاب خطاباً راشداً أميناً غالباً، و لايكون قادراً على توجيه الجمهور إلى الوجهة الصحيحة ...

إنّ مشكلة الخطاب الإسلامي المعاصر لدى أصحاب التوجهات الطائفية المعاصرة، هي الحالة العاطفية الطاغية على هذا الخطاب والحالة الشعارية، ورفض

ص: 194

لغة العقل، وحالة الإنكفاء على الذات، والانغلاق على الرأي الآخر، ورفض الطرف الآخر، رفضاً مطلقاً إلى حدود التكفير، واستباحة الدماء التي حرّمها الله تعالى إلّا بحقها.

و قد يكون استجابة الجمهور أحياناً إلى الخطاب الشعاري والعاطفي أسرع من استجابتهم للخطاب العقلاني الرافض للعاطفة .. ولكن يبقى استخدام لغة العاطفة والشعار محضاً وحصراً في خطاب الجمهور، خيانة للجمهور مهما كانت استجابتهم لهذا الخطاب، واستخدام لغة العقل ومحكمات الدين في خطاب الجمهور هو الموقف الناصح الأمين من الجمهور، و إن واجهه الجمهور أحياناً بالرفض.

وعلى علماء المسلمين أن يتقوا الله في الخطاب، ولا يبتغوا مرضاة الناس في ذلك، فقد يكون في الناس من يستجيب للشعار والعاطفة، وقد يكون الخطاب العاطفي والشعاري أسرع قبولًا في وسط الجمهور .. ولكنّه على كل حال خيانة، يجب أن يحذرها العلماء الراشدون.

والجمهور الذي يتثقف من خلال الخطاب العقلائي أكثر ثباتاً وصلابة في الموقف، والجمهور الذي يتلقى الخطاب العاطفي الشعاري جمهور متقلّب في الرأي، لا يثبت على موقف ورأي، ومسؤولية هذه الحالة المتقلّبة على عهدة الخطاب العاطفي والشعاري الذي يتلقاه هذا الجمهور من حملة الخطاب الطائفي المتشنّج.

منطلقات الخطاب الديني

وكما يجب الاهتمام بلغة الخطاب في حياتنا الثقافية والسياسية المعاصرة، كذلك يجب الاهتمام بمنطلقات الخطاب الإسلامي ... هناك خطابات سياسية وثقافية كثيرة معاصرة صادرة من (الولاءات) المنتحلة الوهمية، كالولاء للقوم، والوطن، والأحزاب، والعشيرة، وهي ولاءات منتحلة كاذبة في مقابل الولاء لله، ولرسوله،

ص: 195

ولأئمة المسلمين وللمؤمنين، وهو الولاء الراشد الصحيح الذي جاء به الوحي من عند الله: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ( (1)) ...

وهذا هو الولاء الحق الذي جاء به رسول الله (ص) من عند الله، وهو الولاء الذي يوحّد صف المسلمين، ويجعل منهم أمة واحدة في صف مرصوص، مقابل أعداء هذه الأمة.

وللقضاء على هذا الولاء، بادر أعداء هذا الدين إلى طرح ولاءات أخرى، في مقابل الولاء لله، ولرسوله، ولأولياء الأمور، وللمؤمنين، كالولاء للقوم والوطن والعشيرة، وبذلوا أموالًا طائلة لتثبيت هذه الولاءات في ثقافة المسلمين المعاصرة، من خلال المدرسة، والصحافة، والإذاعة، والتلفاز، وإحياء المآثر الفرعونية والبابلية والكسروية والفينيقية .. إلى غير ذلك.

من خلال هذه الثقافات عملوا على زرع ولاءات وهمية، قومية، و وطنيه .. مقابل الولاء لله ولرسوله.

ونحن عندما نتحدث عن الخطاب السياسي الذي نلقيه إلى جمهورنا يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار منطلقات هذا الخطاب ... هذا الخطاب يجب أن ينطلق عن الولاء لله ولرسوله في قوله تعالى:

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ) ( (2)).

وقوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ( (3)).

وقوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ( (4)).


1- المائدة: 55
2- المائدة: 55
3- الأنبياء: 92
4- المؤمنون: 52

ص: 196

وقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ( (1)).

وقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاء بَعْضٍ) ( (2)).

وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ) ( (3)).

وقوله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ((4) ).

وقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ) ( (5)).

وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاء بَعْضٍ) ((6) ).

أمّة واحدة، وطاعة واحدة، وولاء واحد.

إنّ لكل ولاء خطاب، وخطاب كل ولاء يختلف عن الخطاب الآخر، ونحن ولاؤنا لله ولرسوله ولأولياء الأمر وللمؤمنين وليس للوطن والقوم والعشيرة .. ولهذا الولاء خطاب يختلف عن خطاب الولاء للقوم والوطن.

ونحن لا نرفض الارتباط بالقوم والوطن إلّا أن هذا الارتباط من الانتماء وليس من الولاء، والولاء يحكم الانتماء .. فقد حارب المسلمون صدر الإسلام أهلهم وآباءهم وإخوانهم من مكة في الله.

وخطابنا إلى جمهور أمتنا- في السراء والضراء- يجب أن ينطلق من هذا المصدر، وهو الخطاب الذي يجمع الشمل، ويزرع المحبة والمودة في القلوب،


1- آل عمران: 103
2- التوبة: 71
3- الحجرات: 10
4- الأنفال: 46
5- النساء: 59
6- الأنفال: 72

ص: 197

ويؤسس التفاهم والتعاون في الأفكار والأعمال.

الصدق والنصح في الخطاب

ويجب أن يكون الخطاب صادقاً ناصحاً .. وفي خطابنا المذهبي الطائفي المعاصر الكثير من الكذب والافتراء .. ومن يقرأ بعض أدبيات الفتنة الطائفية المعاصرة، يجد نماذج كثيرة من هذا الافتراء والكذب، ومن أمثلة هذا الافتراء: الافتراء على الشيعة الإمامية بأنهم يقولون بتحريف القرآن، وهم ينفون عن أنفسهم هذه التهمة، ويصرّحون ويكتبون عن صيانة القرآن عن التحريف.

ولو أنك سبرت بلاد المسلمين في كل العالم لا تجد غير هذا القرآن قرآناً يتلوه الناس، ويتعبدون به في مشارق الأرض ومغاربها.

وكم يتبادل المسلمون من المذاهب المختلفة، الافتراءات فيما بينهم من غير هدى ولا بيّنة.

ولا يقتصر أمر هذه الافتراءات فيما بين الشيعة والسنة، وإنما يتم بين الشيعة أنفسهم، والسنة أنفسهم بما لا يقلّ عما يجري بين الشيعة والسنة ...

وهذا الخطاب الطائفي الاستفزازي، ينقصه الصدق والنصح ..

ينقصه الصدق، لأنّ علماء المسلمين من جميع المذاهب يكتبون ويعلنون ويصرّحون أن ليس لله على وجه الأرض كلها قرآن غير هذا القرآن، الذي يتلوه المسلمون صباحاً ومساءاً.

وينقصه النصح، لأنّ المسلم الذي يهمّه أمر وحدة المسلمين وانسجامهم، والذي يأمر الله تعالى به ورسوله لا ينال مذاهب المسلمين بهذا اللون القاسي من الجرح والتشهير والتسقيط، من دون تثبت علمي، بل مع إعلانهم البراءة عما ينسب إليهم من الافتراء.

ص: 198

الشجاعة والصراحة في الخطاب

إنّ مواجهة ظروف الفتنة الطائفية اليوم تستدعي شجاعة وصراحة في الخطاب وما لم يمتلك حَمَلَةُ الخطاب الإسلامي هذه الشجاعة والصراحة لا يتمكنون من مواجهة الفتنة الطائفية المعاصرة واستئصالها.

إنّ الحالة التكفيرية المعاصرة، واستباحة دماء المسلمين بغير الحق، عودة للحالة الخارجية التي ظهرت صدر الإسلام في حرب صفين والنهروان في أيام خلافة أميرالمؤمنين (ع)، و ولادة جديدة لنفس الحالة.

وهذه الحالة آخذة بالتوسع والنفوذ إلى داخل الحركة الإسلامية المعاصرة .. ولابد أن يمتلك تجاه هذه الحالة، علماء المسلمين الجرأة، والشجاعة، والصراحة الكافية في بيان موقف الإسلام من هذه الجماعة، ومن هذه الحالة التي تُعدّ انزلاقاً خطيراً للحركة الإسلامية المعاصرة.

والتردد والتريث في مثل هذا البيان والخطاب، يؤدّي إلى استشراء هذه الحالة وتوسعها، و إلى حدوث انزلاقات خطيرة في الحركة الإسلامية المعاصرة بهذا الاتجاه.

وقد حرّم الإسلام دم المسلم وماله إذا كان يشهد بالتوحيد لله والنبوة لرسول الله قولًا واحداً بين فقهاء المسلمين.

روى مسلم في الصحيح في فضائل علي (ع): عندما دعا رسول الله (ص) علياً في فتح خيبر فأعطاه الراية وقال له: «امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك»، قال: فسار علي 7 شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ:

يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟

قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، و أنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم» (1).


1- صحيح مسلم 1871: 4- 1872 كتاب فضائل الصحابة.

ص: 199

وفي الصحيحين بالإسناد إلى مقداد بن عمرو: أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار، فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، فأقتلْه يا رسول الله بعد أن قالها، فقال رسول الله (ص): «لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال»(1) .

و أخرج البخاري في بعث علي (ع) وخالد إلى اليمن: أنّ رجلًا قام، فقال: يارسول الله: اتق الله، فقال (ص): «ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله»، فقال خالد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال (ص): «لا، لعله أن يكون يصلي» (2).

وعن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «قال رسول الله (ص): امرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماءهم وأموالهم» (3).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص):

«امرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله» (4).

وعن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال: «الإسلام يُحقن به الدم» (5).

وعنه (ع) أنه قال: «شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله (ص)، به حُقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث» (6).


1- صحيح البخاري 1581: 4 ح 4094 وصحيح مسلم 95: 1 كتاب الإيمان ح 155 عدى الجملة الأخيرة.
2- صحيح البخاري 1581: 4 ح 4094 ومسند احمد 10: 4- 11
3- بحار الأنوار 242: 68
4- مشكاة المصابيح ج 12- 14
5- المحاسن: 285؛ وبحار الأنوار 243: 68
6- الكافي ج 2 ص 25؛ وبحار الأنوار 248: 68

ص: 200

وعن رسول الله (ص) أنه قال: «من وحّد الله وكف بما يعبد من دونه حَرُم ماله ودمه وحسابه على الله» (1).

وعن أبي عبدالله الصادق (ع) أيضاً عن رسول الله (ص) أنه قال: «أيها الناس إنّي أمرت أن أقاتلكم حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، فإذا فعلتم ذلك حقنتم بها أموالكم ودماءكم إلّا بحقّها وكان حسابكم على الله»(2) .

وروى الدارمي عن رسول الله (ص) أنه قال: «إنّي أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها حرمت عليّ دماؤهم وأموالهم إلّا بحقّها، وحسابهم على الله» (3).

عن أبي سعيد الخدري قال: وجد قتيل على عهد رسول الله (ص)، فخرج مغضباً حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يقتل رجل من المسلمين لا يُدرى من قتله، والذي نفسي بيده لو أنّ أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل مؤمن أو رضوا به لأدخلهم الله في النار»(4) .

وروى مسلم في (الصحيح) روايتين عن رسول الله (ص) نعرف منهما عظيم حرمة «لا إله إلا الله» وحرمة القائل بها، ولو كان القائل بها قد تظاهر بها ليحمي نفسه من القتل، وأنّ هذه الكلمة تعطي قائلها وحاملها من الحرمة ما لا يجوز لأحد انتهاكها إلّا بحقه.

روى مسلم أنّ رسول الله (ص) بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين،


1- مسند أحمد بن حنبل 472: 3
2- المحاسن: 284، بحار الأنوار 282: 68
3- سنن الدارمي 218: 2، ورواه بلفظ قريب منه عن رسول الله 9 البخاري في 57: 1 من الصحيح في فضل استقبال القبلة، وأبو داود في السنن 41: 2- 42 باب على ما يقاتل المشركون، واحمد بن حنبل في المسند 199: 3، و 445: 2، 339: 3، و 8: 4- 9، وابن ماجة في السنن 1285: 2- 1286، والنسائي في السنن 109: 8
4- بحار الأنوار 150: 75

ص: 201

وأنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وإنّ رجلًا من المسلمين قصد غفلته، قال: وكنا نحدّث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلّا الله فقتله، فجاء البشير إلى النبي (ص)، فسأله فأخبره، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله قال: لِمَ قتلته؟ قال: يا رسول الله اوجع في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً وسمّى له نفراً، وإنّي حملت عليه فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله، قال رسول الله (ص):

أقتلته؟ قال: نعم، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة، قال:

يا رسول الله استغفر لي، قال: وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة، قال: فجعل لا يزيد على أن يقول: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة» (1).

وروى مسلم أيضاً عن أسامة بن زيد أنه قال:

«بعثنا رسول الله (ص) في سرية فصبحنا الحرقات (2) من جهينة فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي (ص) فقال رسول الله (ص): أقال لا إله إلّا الله وقتلته! قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فمازال يكررها عليَّ حتى تمنّيت أني أسلمت يومئذ» (3).

ورغم أنّ القتيل كان مقاتلًا يقاتل المسلمين في صفوف الكافرين حتى اللحظة الأخيرة، ونطق بكلمة التوحيد في اللحظة الأخيرة عندما وجد السيف على رأسه، وواضح من كل القرائن أنّ الرجل شهد ب- لا إله إلّا الله خوفاً من


1- صحيح مسلم 68: 1- 69
2- الحرقات بضم المهملة والراء وقاف بعدها من جهينة، هم بنو حميس بن عمرو بن ثعلبة بن مودوعة بن جهينة، كما في جمهرة ابن حزم: 446
3- صحيح مسلم 67: 1

ص: 202

القتل، وليس عن إيمان، كما قال أسامة بن زيد .. إلّا أنّ رسول الله (ص) غضب غضباً واضحاً، وأنكر على أسامة بشدة وقوة، وكرّر إنكاره على أسامة حتى تمنى أسامة أن يكون قد أسلم في ذلك اليوم، حتى يكون الإسلام قد جبَّ من ذنوبه ما سبق.

خطبة رسول الله (ص) بمنى

وهذه الخطبة ألقاها رسول الله (ص) في جموع المسلمين الغفيرة بيوم النحر بمنى، وقد روى هذه الخطبة ثقاة المحدثين بألفاظ متقاربة، ونحن ننقل الخطبة برواية الإمام أبي عبدالله الصادق (ع)، ويغنينا اشتهار روايتها بين حفاظ الحديث النبوي عن ذكر مصادرها:

عن زيد الشحّام عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال:

«إنّ رسول الله 9 وقف بمنى حين قضى مناسكها في حجة الوداع فقال: أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم، واعقلوه عني، فإني لا أدرى لعليّ لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامنا هذا، ثم قال: أيُّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم، قال: فأيّ شهر أعظم حرمة؟ قالوا هذا الشهر، قال: فأيّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: اللّهم اشهد، ألا من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لايحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم، ولا ترجعوا بعدي كفّاراً»(1) .


1- روى هذه الخطبة جمع غفير من الحفاظ والمحدّثين من الفريقين ولشهرتها نعرض عن ذكر مصادر الخطبة.

ص: 203

ثانياً: الجماعة، واللقاء، والحوار

اشارة

هذه ثلاثة عناوين يحبها الله تعالى، وهي أساس التقريب والتفاهم وجمع الشمل وهي:

(الجماعة) و (الاجتماع واللقاء) و (الحوار والتفاهم).

وهذه الثلاثة هي الأداة المفضلة في دين الله لمكافحة الفتن الطائفية، وإزالة التقاطعات، والوصول إلى الانسجام والتفاهم والتعاون.

وسوف نشرح هذه الثلاثة، ونقف وقفات قصيرة عند كل واحد منها:

الجماعة (الأمّة)

نقصد بالجماعة: الأمّة الإسلامية الواحدة، وتتميز هذه الأمّة من سائر الأمم في العقيدة والشريعة والرسالة، و رسالتها التعاون والتضامن الاجتماعي، على أداء هذه الرسالة، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...

(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى) ((1) ).

(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَاْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( (2)).

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) ((3) ).

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاء بَعْضٍ يَاْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ


1- يوسف: 108
2- آل عمران: 104
3- آل عمران: 110

ص: 204

عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ((1) ).

هؤلاء، جماعة هذه الأمة، يحملون هماً واحداً، ومسؤولية واحدة، هي الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم أسرة واحدة، متعاونة ومتفاهمة ومتعاطفة (بَعْضُهُمْ أوْلِيَاء بَعْضٍ)، وهم يؤمنون جميعاً بالله ورسوله، ويطيعون الله ورسوله؛ فإنّ الدعوة إلى الله ورسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لايكون إلّا مع الإيمان بالله ورسوله، وطاعة الله و رسوله.

إذن هذه الجماعة تحمل ثلاث خصال:

1- الإيمان بالله ورسوله، وطاعة الله ورسوله.

2- الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة ..

3- التفاهم والتعاون والتعاضد والتواصي بالحق والصبر فيما بينهم.

(إِلّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ( (2)).

وعليه فإنّ مفهوم (الجماعة) بهذا التوضيح يلتقي مفهوم (الأمة)، ويتحد معه.

وهذه الأمة أمة واحدة، وليست أمماً شتى، لا ريب في ذلك.

(إِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ((3) ).

(وَإِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ( (4)).

وهذه الأمة بعرضها العريض أمّة واحدة، لها عقيدة واحدة، وشريعة واحدة، و منهاجاً واحداً، ودعوة واحدة، وسبيل واحد، ورسالة واحدة، يؤدّونها مجتمعين.

وهذه الوحدة والاجتماع في الأداء، وتحمّل المسؤولية، والوحدة في العقيدة والشريعة والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي التي تجعل من هذه


1- التوبة: 71
2- العصر: 3
3- الأنبياء: 92
4- المؤمنون: 52

ص: 205

الأمة جماعة واحدة.

وقد ورد التأكيد على هذا الاجتماع، والوحدة في الأداء، والوحدة في الموقف والعمل في آيات عديدة من القرآن.

منها قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا) فإنّ الآية الكريمة تحمل معنيين:

الاعتصام بحبل الله، وهذا هو المعنى الأول، وأن يكون هذا الاعتصام من قبل الجميع (جميعاً) وهذا هو المعنى الثاني.

ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِى السِّلْمِ كَآفَّةً) ((1) ).

والآية الكريمة كذلك تحمل معنيين:

1- الدخول في السلم.

2- وأن يكون هذا الدخول من قبل الجميع، (كافة).

وقد ورد التأكيد في أحاديث كثيرة متضافرة على لزوم الجماعة، منها ما رواه الفريقان عن رسول الله (ص) في الخطبة التي خطبها في مسجد (الخيف) بمنى عام حجة الوداع، وإليك هذا الخطاب النبوي الشريف:

«نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم تبلغه، فربّ حامل فقه ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لائمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم، المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواه، يسعى بذمتهم أدناهم»(2) .

وهذا خطاب شريف يتضمن ثلاث دعوات، وأية دعوات؟

1- الإخلاص في العلاقة بالله.


1- البقرة: 208
2- بحار الأنوار 69: 27 ح 7

ص: 206

2- والنصيحة في العلاقة بأئمة المسلمين وأولياء الأمر:.

3- واللزوم لجماعة المسلمين في العلاقة بالأُمة.

وسلامة الفرد والمجتمع بسلامة هذه العلاقات الثلاثة:

1- العلاقة بالله.

2- والعلاقة بأئمة المسلمين.

3- والعلاقة بجماعة المسلمين.

فإذا سلمت علاقة الفرد بهذه المحاور الثلاثة، يسلم الفرد، وتسلم الأمة.

اللقاء والاجتماع

ورد في النصوص الإسلامية التأكيد على اللقاء والاجتماع والنهي عن الاختلاف والتفريق والتقاطع داخل الجماعة المسلمة، والنهي عن الخروج عن جماعة هذه الأمة والشذوذ عنها.

عن رسول الله (ص): «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة»(1) .

وعنه (ص): «اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة. فعليكم بالجماعة، فإنّ يد الله مع الجماعة، ولم يجمع الله أمتي إلّا على هدى، واعلموا أنّ كل شيطان (البعيد من الحق) هوى في النار»(2) .

وعنه أيضا (ص): «لا يجمع الله أمر أمتي على ضلالة أبداً، اتبعوا السواد الأعظم، من شذّ في النار»(3) .

وعن أمير المؤمنين (ع): «ألزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإنّ الشاذ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب، فلا تكونوا


1- ميزان الحكمة 765: 1
2- كنز العمال 205: 1 ح 1025
3- ميزان الحكمة 406: 1

ص: 207

أنصاف الفتن، وأعلام البدع، وألزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة»(1) .

وعن الإمام الصادق (ع) انه قال: «إنّ قوماً جلسوا عن حضور الجماعة، فهمّ رسول الله 9 أن يشعل النار في دورهم حتى خرجوا وحضروا الجماعة مع المسلمين»(2) .

وقد جعل الله تعالى في لقاء المؤمنين رحمة وبركة وخيراً كثيراً، وجعل اللقاء والحوار من منازل رحمته وبركاته ...

كما أنّ الشيطان يجعل من التباعد سبباً للنفور والقطيعة والخلاف.

واللقاء لا يتمّ من غير حوار عادة، فهما متلازمان من ناحية اللقاء، وقد رأينا بركات كثيرة في اللقاءات الأخيرة المعاصرة التي تمت في إيران بعد قيام نظام الجمهورية الإسلامية ... بين المذاهب الإسلامية فقد كانت هذه اللقاءات مصدر خير كثير في حياة هذه الأمة، تعارف خلالها بعضهم على بعض، وتحاببوا، ووجدوا فرصاً واسعة للتفاهم والتعاون، لم يكونوا يعرفوها من قبل ... في هذه اللقاءات إرتفع كثير من اللبس والغموض الذي كان ينظر من خلاله بعضهم إلى بعض من قبل، واكتشفوا مساحات مشتركة واسعة جداً في الفكر والثقافة والمعرفة، كانوا يعدونها من قبل مما ينفرد بها بعضهم عن بعض.

(الجماعة) و (الجمعة)

إنّ اجتماع المؤمنين واللقاء بينهم أمر يحبّه الله تعالى، وما يحبّه الله يجعل فيه البركة والخير، ويجعله من منازل رحمته.

وهذا اللقاء، وما يستتبعه من الحوار يدخل في صلب التشريع .. فقد شرَّع الله في


1- نهج البلاغة: الخطبة 127
2- مستدرك الوسائل 450: 6

ص: 208

هذا الدين للمسلمين (الجماعة) و (الجمعة) و (الحج) ..

ويدخل في (الجمعة) صلاة العيدين الفطر والأضحى.

وهذه الثلاثة (الجماعة، والجمعة، والحج) تجمعات إسلامية ثلاثة تجمع المسلمين من مختلف الأقاليم و القوميات والمذاهب والاتجاهات والاجتهادات .. ولاشك أنّ الحالة العبادية والذكر في الصلاة والحج جزء لا يتجزأ من هذه الثلاثة ... إلّا أن حالة اللقاء والاجتماع أمر مقصود في هذه التشريعات الثلاثة من دون شك.

ورغم أن الإنسان يُقبل على صلاته في الخلوات أكثر من الإقبال عليها في الاجتماعات ... مع ذلك كله يفضّل الإسلام إقامة الفرائض اليومية جماعة على الصلاة بالانفراد، وذلك نظراً لأهمية التقاء المؤمنين وتواجدهم في ساحة واحدة.

وقد بلغ من اهتمام الإسلام بالجماعة أنّ رسول الله (ص) هدد أقواماً كانوا مقاطعين لصلاة الجماعة في المدينة بأن يحرق بيوتهم، كما في الرواية.

روى الشيخ الطوسي في التهذيب عن الصادق (ع): أنّ أناساً كانوا على عهد رسول الله (ص) ابطئوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله (ص): «ليوشك قوم يدعون للصلاة (يَدَعون الصلاة ظ) في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم النار فنحرق عليهم بيوتهم» (1).

وكذلك الاهتمام بأمر (الجمعة) في الإسلام وتحشيد المؤمنين من كل منطقة في جامع عام لإقامة الجمعة، وقد روي عن الإمام الباقر (ع):

«صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإنّ ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض، ولا يدع ثلاث فرائض، من غير علة إلّا منافق»(2) .


1- التهذيب 25: 3، ووسائل الشيعة 376: 5، نقلًا عن ميزان الحكمة 410: 5
2- وسائل الشيعة 4: 5 نقلًا عن ميزان الحكمة 426: 5

ص: 209

واجتماع الحج هو الاجتماع الأوسع للأمة كلها، تجتمع في موعد واحد ومكان واحد، لإقامة هذه الفريضة، وهو أوسع اجتماع يعرفه الناس على وجه الأرض .. يقيمه المسلمون في كل عام تلبية لأذان أبيهم أبي الأنبياء إبراهيم (ع) (وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) ((1) ).

الجماعة والجمعة تجمعان كل الشرائح والمذاهب

وقد حرص الإسلام أن يحضر المسلون بكل مذاهبهم واتجاهاتهم هذه الاجتماعات الثلاثة لأداء الفريضة اليومية وصلاة الجمعة وفريضة الحج مجتمعين.

وكان أئمة أهل البيت: يؤكدون لشيعتهم حضور الجماعات والجمعات لأهل السنة.

عن الإمام الصادق (ع): «من صلّى خلفهم كان كمن صلّى خلف رسول الله 9».

وفي حديث آخر عنه (ع): «إذا صليت معهم غُفِرَ بعدد من خالفك في قراء البسملة وحضر الصلاة في المسجد».

وذلك أنّ الأحناف من أهل السنة يلغون البسملة في القراءة، على خلاف مذهب أهل البيت: في اعتبار البسملة جزءاً من كل سورة، إلّا سورة التوبة.

ويشكو أحد الرواة إلى الإمام الصادق (ع) حاله في حضور صلوات جماعة أهل السنة يقول: إنّ لنا إماماً مخالفاً، وهو يبغض أصحابنا كلهم، فقال (ع): «ما عليك من قوله، والله لئن كنت صادقاً لأنت أحق بالمسجد منه، فكن أنت أول داخل وآخر خارج، وأحسن خلقك مع الناس، وقل خيراً».

ويقول الإمام الصادق لإسحاق بن عمار: «يا إسحاق أتصلي معهم في


1- الحج: 27

ص: 210

المسجد؟ قال: قلت نعم، قال: صلّ معهم فإنّ المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله».

*** إنّ من الضروري تعبئة الجماعات والجمعات بحضور الشرائح الإسلامية المختلفة من كل المذاهب والطوائف الإسلامية، وكسر الحواجز الطائفية والمذهبية فيهما.

ومن الضروري أن يكون خطاب أئمة الجمعات والجماعات، خطاباً تقريبياً، وحدوياً، توحيدياً، يكسب كل الفرق والطوائف الإسلامية، ولا يفرّقهم ولايُنَفِّرُهم.

ومن الضروري تعبئة الحج بالحوار الهادف الموجّه بين المسلمين في شؤونهم السياسية والثقافية والاقتصادية.

مساحات اللقاء والحوار

أهم مساحات اللقاء والحوار، هي المساحة الثقافية، والمعرفية، والمساحة السياسية، والمساحة الاقتصادية، والاختلاط العائلي بالتزاوج والمصاهرة.

اللقاء، والحوار الموجّه في شؤون الثقافة والمعرفة، يؤدي إلى تقريب وجهات النظر من المذاهب الإسلامية في شؤون المعرفة والعلم، كالفقه واصول الفقه والكلام والتفسير.

ويؤدي إلى اكتشاف مساحات مشتركة بين المذاهب الإسلامية في مختلف أبواب المعرفة، ويتبين لهم أنّ الخلاف في ما بين المذاهب الإسلامية في هذه المسائل لم يكن إلّا خلافاً لفظياً، وهم متفقون على جوهر هذه المسائل.

كما يؤدي إلى التكامل والتلاقح العملي لدى الجميع.

ص: 211

وقد كانت هذه الطريقة مألوفة لدى العلماء، وطلبة العلوم من المذاهب الإسلامية المختلفة، في التردد على المدارس، والحوزات العلمية المختلفة لتلقي العلم، رغم اختلاف المذاهب .. وكان لهذا الترافد العلمي والثقافي أثر كبير في إثراء المعرفة والثقافة الإسلامية، وتكامل العلوم والمعارف لدى المسلمين.

المساحة السياسية مساحة واسعة ... وهذه المساحة اليوم أصبحت مساحة لهواة السياسة، والإنتهازيين، واللاعبين الدوليين في السياسة، وأنّ للسياسة لاعبين، يلعبون في هذه المساحة كما يلعب اللاعبون من هواة الشعبذة والمسرح .. ويقيسون العمل السياسي ويفهمونه ويقيّمونه بنفس المقاييس التي يفهم فيها الناس العاب التمثيل السينمائي .. يكذبون ويُكَذّبون حتى يصدقهم الناس، ويستخدمون بيوت أموال المسلمين بسخاء لكسب آراء الناس، ويبطلون الحقائق، ويحققون الزيف والكذب والباطل، بأدوات الكذب والتضليل والتغرير.

وللأسف أنّ المساحة السياسية في العالم اليوم تحكمها هذه العصابات، إلّا ما ندر وشذّ، ولا نطيل في هذا الحديث، وسوف يطول موقفنا بين يدي الله تعالى يوم السؤال الأكبر والمحاسبة الكبرى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) ( (1)) تجاه هذه القضية.

فقد عرف الناس الظالمين، وسكتوا عنهم، وجاوروهم وتعاونهم معهم، ولم يحرّكوا ساكناً، ولم يزعجوهم بموقف أو كلمة، وتركوهم يمرحون ويلعبون بمصالح هذه الأمة وقضاياها الكبرى، وينهبون ثرواتها، ويمكّنون أنظمة الاستكبار العالمي من بلاد المسلمين، إلّا القليل النادر، الذين نهضوا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجابهوهم بكلمة الحق، وكسروا كبريائهم وأذلوا غرورهم .. وهؤلاء


1- الصافات: 24

ص: 212

قلة في هذه الأمة، ولكنّها قلة مباركة.

والسبيل الوحيد إلى طرد هذه العصابات السياسية الانتهازيّة من الساحة الإسلامية السياسية هو حضور جمهور المسلمين في هذه الساحة، حضوراً مُوحّداً بالإيمان والوعي والعطاء.

إنّ حضور الجمهور في الساحة يغيّب هذه العصابات، ويسلب منهم الأضواء التي يتألّقون بها، وتكشفهم وتعرّيهم.

وهذا الحضور عبادة، بمستوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّه يطرد حملة المنكر من الساحة، ويفتح المجال للمعروف والعاملين به.

وهذا الحضور عبادة، كما أنّ الصلاة والصيام عبادة، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

شريطة أن يكون هذا الحضور عن وعي وبصيرة، وليس حضوراً غوغائياً انفعالياً، وبشرط أن يحمل هذا الحضور خصلة المقاومة والعطاء، وليس حضوراً واهياً ضعيفاً انفعاليّاً، تفرّقه طلقات من الرصاص والغازات المسيلة للدموع.

وبشرط أن يكون هذا الحضور حضوراً وحدوياً، تتجسّد فيه وحدة الصف.

ويتم الحوار فيه على أساس مصلحة الإسلام الكبرى، ويتعامل الجمهور في هذه الساحة من منطلق (الأمة الواحدة)، ويتفقون فيها على موقف واحد ورأى واحد.

إنّ مثل هذا الحضور واللقاء والحوار عندما يعمّ الساحة الإسلامية، وينتشر في العواصم والحواضر والمراكز الإسلامية، يكون له دور كبير في توجيه قضايانا السياسية ... ولست أريد أن أشُطَّ في الخيال وأقول: إنّ حضور الناس في المساحة سوف يؤدي إلى تغيير شامل لأوضاعنا السياسية الفاسدة في العالم الإسلامي، ولكنني أقول إنّ هذا الحضور الواحد الشامل سوف يُعدّل كثيراً من قرارات

ص: 213

الأنظمة السياسية الكبرى، مثل قرار (التطبيع)، وتبادل السلام بالأرض في فلسطين، والموقف من الإحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان والموقف من المسألة النووية الإيرانية، والموقف السلبي الذي اتخذته الأنظمة العربية من (حماس) في خلافها مع (منظمة التحرير الفلسطينية)، تبعاً للموقف الأميركي- الأوربي- الإسرائيلي، والموقف من التأييد الأمريكي لإسرائيل والرفض الأمريكي للمقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين (حزب الله وحماس والجهاد)، و ضرورة التفكيك بين (المقاومة) و (الإرهاب)، واحترام الأول وتبنّيه، ونبذ الثاني ورفضه ...

إنّ مثل هذا اللقاء والحوار في الساحة الإسلامية العريضة من أهم ضرورات المرحلة، شريطة أن نحصّن هذا اللقاء والحوار من نفوذ الأنظمة واختراقاتها، فإنّ الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي، تملك من وسائل إختراق الساحة ما يهدّد وحدة الساحة ووعيها، ويؤدي إلى تفريقها وتضليلها، وقد شاهدنا في حياتنا السياسية المعاصرة نماذج كثيرة من هذا الاختراق والتضليل والتجهيل والتفريق.

شروط اللقاء والحوار

ولكي يكون هذا اللقاء والحوار نافعين يجب أن يتوفر فيهما الشروط التالية:

فقد تتدافع الأطراف الإسلامية فيما بينها، ولا يصلون إلى قناعة مشتركة، عند ذلك يجب عليهم أن يقدّموا المصلحة الإسلامية العليا على كل مصلحة .. وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قدوة لكل المسلمين في ذلك .. يقول (ع) فيما جرى عليه من بعد رسول الله (ص) في تقديم الآخرين عليه في أمر الولاية والخلافة، وتنحيته عن حقّه في هذا الأمر:

«فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب تُزعج هذا الأمر من

ص: 214

بعده 9 عن أهل بيته، ولا أنهم مُنَحُّوهُ عني من بعده، فما راعني إلّا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي (عن البيعة)، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يَدْعُون إلى محق دين محمد 9، فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة بها عليّ أعظم من فوت ولايتكم»(1) .

إنّ سوء الظن إذا استولى على الناس في علاقة بعضهم ببعض أفسد اللقاء، وكانت نتائج اللقاء سلبية .. وإنّ سوء الظن آفة كل لقاء وحوار وعمل مشترك ... وقد نهانا الله تعالى عن سوء الظن في دائرة العلاقات التي تربط المسلمين بعضهم ببعض: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(2) .

إنّ تعاطي سوء الظن في العلاقة يفسد العلاقة ويلغيها.

عندما نكون في منعطف تاريخي حساس، كالمنعطف الذي تعيشه الأُمّة الإسلامية اليوم.

وعندما تكون الأمة الإسلامية ناهضة، وتخوض صراعاً مريراً في مواجهة الأنظمة المرتبطة بعجلة الاستكبار العالمي وأنظمة الاستكبار العالمي التي تقف خلف هذه الأنظمة.

وعندما تُحشّد أنظمة الاستكبار العالمي كل إمكاناتها لمواجهة التيار الإسلامي العظيم، الذي يعمّ كل العالم الإسلامي، وكان الموقف بيننا وبين الاستكبار العالمي


1- نهج البلاغة: كتاب رقم 62
2- الحجرات: 12

ص: 215

موقفاً تاريخياً مصيرياً فاصلًا ...

أقول عند ذلك فإنّ من أفدح الأخطاء في ظروف صعبة وعسيرة مثل هذه الظروف، أن تغلب العاطفة والانفعال والشعار على مواقفنا السياسية، ولقاءاتنا، وخطابنا لجماهيرنا، وحواراتنا المتبادلة داخل البيت الإسلامي الكبير.

إنّ لغة العاطفة والانفعال والشعار، كما هو نافع في إثارة الهمم وإنهاض الجمهور، يُمكنُ أن يتحول في بعض الحالات إلى ألغام سريعة الانفجار تُحَوّل الساحة إلى ساحات للسجال والجدال العقيم الضار.

ونتمنى، لو أنّ طرفاً أو جهة أو شخصاً أراد أن يستخدم هذه اللغة في إثارة التشنج في صفوف المسلمين، ويعكر صفو العلاقات الإسلامية داخل الصف الإسلامي ... من أيّ مذهب، وأيّة طائفة، نتمنى أن يواجهه الآخرون بالعقلانية الإسلامية، والدعوة إلى ما يأمرنا الله تعالى به من الاعتصام بحبل الله (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ) والنهي عن التفرقة (وَلَا تَفَرَّقُواْ).

إنّ الحالة السياسية والإعلامية في العالم، والعلاقات السياسية والاقتصادية بين أنظمة الاستكبار العالمي، والأنظمة التابعة لها في العالم الإسلامي، والعلاقة بين السياسة والإعلام ... حالات معقدة شديدة التعقيد، ويدخل في تكوينها عوامل غير مرئية كثيرة، وما يظهر على السطح من التصريحات والعلاقات لا يعبّر عن كل شي ء ...

أذكر في المصالحة التي تمت بين نظام عربي وإسرائيل بالوساطة الأمريكية ... فتصافح زعيمان من الطرفين أمام أضواء الكاميرات في حضور الرئيس الأمريكي فاجأ الرئيس الأمريكي المسؤول العربي بالسؤال التالي:

ص: 216

منذ كم كانت لكم علاقة وارتباط ولقاءات مع المسؤولين في إسرائيل؟

فقال المسؤول العربي الكبير مأخوذاً بهذه المفاجأة ممتعضاً من هذا الإحراج: منذ عشرين عاماً.

إنّ هذا السؤال والجواب يكشف عن الاحتقار الأمريكي لجملة من زعماء الأنظمة العربية الذين تحميهم أمريكا نفسها، ويحمون مصالحها، كما تكشف عن عمق الفساد السياسي في طائفة من الأنظمة العربية.

منذ عشرين عاماً يتعامل مع إسرائيل، ويتعاطى معها، ويلتقي بقادتها في لندن وواشنطن .. ولا يعرف الناس على سطح الإعلام السياسي عنه إلّا لغة الشجب والتهديد لإسرائيل ..!!

إنّ هذه الأنظمة السياسية، بين الواقع والتصريحات التي يقدمونها للإعلام، تشبه الكتل الثلجية العائمة على مياه البحار، تسعة أعشار منها غاطسة في الماء لا تُرى، وعُشْرٌ منها فقط تظهر على سطح الماء ...

إنّ هذه الأنظمة بين واقعها الغاطس في مستنقع العلاقة بأنظمة الاستكبار العالمي، والشطر الظاهر المسموع والمرئي منها في الإعلام، تشبه هذه الكتل الثلجية .. ومن أفدح الخطأ أن نتعامل مع هذه الأنظمة من خلال الإعلام المرئي والمسموع، ومن خلال الخطب والتصريحات السياسية التي يطلقوها بين حين وآخر.

إنّ لقاءاتنا السياسية، وخطابنا السياسي، يجب أن يمتلك خلفية غنية من الوعي السياسي، والإحاطة بالظروف السياسية المعقدة، والمعرفة بالخلفيات السياسية التي تقع خلف المواقف والقرارات والتصريحات السياسية.

ومن دون هذا الوعي السياسي سوف يقع جمهورنا وساحتنا في تخبّط سياسي واسع ... ونحن قد تحدثنا عن ضرورة الوعي السياسي وأهميته الكبيرة في هذه

ص: 217

المرحلة ... وعلى علماء المسلمين، وخطبائهم، ومثقفيهم، والحركات الإسلامية، إشاعة الوعي السياسي ونشره، في الأوساط الإسلامية الشعبية.

قد ينقلب الحوار إلى جدال عقيم، بل ينقلب إلى عائق يعيق حركة الأمة، وحجاب يحجب المسلمين بعضهم عن بعض، وقد يكون الحوار جسراً للتفاهم والتعاون والتلاقي في المساحات المشتركة السياسية والثقافية والاقتصادية لهذه الأمة، وذلك عندما يكون الحوار بالأسلوب الذي علّمنا الله تعالى ب- (التي هي أحسن، وأقوم للعلاقة الحسنة والتفاهم بين المسلمين)، يقول تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ) ((1) ).

ويقول تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) ((2) ).

ولا سبيل لدفع (نزغ الشيطان) في العلاقة بين أطراف هذه الأمة إلّا أن يخاطب بعضنا بعضاً بأحسن ما نستطيع عليه من القول.

إنّ علينا أن نحصّن هذه اللقاءات والحوارات الإسلامية من نفوذ الأنظمة التي تقع تحت سلطان أنظمة الاستكبار العالمي واختراقها، فإنّ هذه الأنظمة تملك من وسائل الإعلام والاستخبار ما يمكّنها من اختراق هذه اللقاءات والحوارات، وإحباطها وإفسادها ... ولكي نتمكن من تفعيل هذه اللقاءات واستثمارها يجب علينا أن نحصّن هذه اللقاءات من نفوذ هذه الأنظمة واختراقاتها.


1- النحل: 125
2- الإسراء: 53

ص: 218

أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) في ضرورة اللقاء والحوار

كان أهل البيت: يوجهون شيعتهم واتباعهم دائماً إلى اللقاء والاجتماع بأهل السنة، والحضور معهم في جوامعهم، واجتماعاتهم، ومجالسهم، وندواتهم، وينهونهم عن الابتعاد عنهم، ويؤكدون لهم بضرورة التواجد في الساحة الإسلامية العامة، وحضور الجمعات والجماعات، وتوحيد المواقف في الحج، ولم يردنا- ولا حديث واحد- عن انفراد أئمة أهل البيت: في موقف من مواقف الحج عن الموقف العام الذي كان يحدده الحكام في تلك البرهة، لعامة المسلمين.

وقد تصدى بعض المنحرفين عن أهل البيت: للدسّ في أحاديثهم: لعزلهم وعزل شيعتهم عن الوسط الإسلامي الكبير .. وكانت هذه الأحاديث على أنحاء، منها أحاديث الغلوّ، ومنها أحاديث التحريف، ومنها أحاديث فيها تخليط في الفقه، ومنها أحاديث فيها انتقاص وتسقيط لأهل البيت:، ومنها أحاديث في الطعن واللعن على خصومهم.

وكانوا يعملون لإشاعة هذه الأحاديث عنهم:، وقد روي عن الإمام الصادق (ع) في هذا المعنى: «إنا أهل بيت صادقون، لا نخلو من كذّاب يكذب علينا، فيسقط صدق كلامنا بكذبه»(1) .

وعنه (ع) أيضاً: «إنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا» (2).

وروي عن يونس عن أبي الحسن الرضا (ع)، قال: «إنّ أبا الخطاب كذّب على علي بن أبي طالب 7، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسّون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله 7 فلا


1- رجال الكشي: 305 الرقم 549
2- المصدر السابق: 195 ترجمة المغيرة بن سعيد.

ص: 219

تقبلوا علينا خلاف القرآن»(1) .

وعن أبي الحسن الرضا (ع) في حديث إلى ابن أبي محمود: «يابن أبي محمود، إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا، جعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا، ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا» (2).

وقد كان أئمة أهل البيت: يعملون لكسر هذا الطوق عنهم وعن شيعتهم بتكذيب هذه الأحاديث، وفضح الوضّاعين الذين كانوا يضعون عليهم من الحديث ما لم يتحدثوا به والتأكيد على رفض كل حديث يروى عنهم يخالف القرآن.

فكانوا يقولون: «فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبينا»، «فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن» (3).

وكانوا يطلبون من فقهاء شيعتهم، ورواة أحاديثهم، أن يتحرّوا الأحاديث الصادقة المروية عنهم: ويحذروا ما وضعه النواصب، والمنحرفون عنهم، عليهم من الأحاديث المنتحلة، وكانوا يضعون لهم الأصول والقواعد العلاجية لمعرفة الأحاديث الصادقة من الأحاديث المتعارضة، والأحاديث الضعيفة، وكانوا يَدْعُون شيعتهم للتعايش مع سائر الطوائف الإسلامية، والانفتاح عليهم، والتعاطي العلمي والثقافي معهم وحضور اجتماعاتهم وصلواتهم.

وكانوا لا يرضون لشيعتهم أن يعتزلوا الوسط الإسلامي العام، فهم جزء من هذه الأمة الكبيرة، واختلافهم عن أهل السنة في بعض الفروع والأصول، ومقاطعتهم للحكام الظلمة الذين كانوا يحكمون المسلمين في العصر الأموي


1- رجال الكشي: 224 الرقم 401
2- عيون أخبار الرضا 303: 1
3- بحار الأنوار 250: 2 ح 62

ص: 220

والعباسي لم يكن يحمل معنى الاعتزال عن الساحة والانقطاع عنها.

وقد كان أئمة أهل البيت: يعيشون معهم وفي أوساطهم، ويجتمع إليهم المسلمون من كافة المذاهب والاتجاهات، ويحضرون مجالسهم، ويأخذون منهم العلم، ولو أحصينا أهل العلم الذين أخذوا العلم عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، لوجدناهم امة كبيرة من أهل العلم، وكانت مجالسهم ومحاضرهم عامرة بفقهاء المسلمين، وحملة الحديث النبوي، وأهل العلم من كل اتجاه ومن كل بلد ... وهذه الحالة يعرفها جيداً من يعرف حديث أئمة أهل البيت: وسيرتهم، وهي تعبّر عن حالة الانفتاح والتعايش المذهبي الإيجابي السليم لكل الاتجاهات والمذاهب الإسلامية. في الوقت الذي كان أهل البيت: يرسمون ويوضحون لشيعتهم وللمسلمين عامة الخط الفكري الصحيح في الاصول والفروع بوضوح وصراحة وبشكل دقيق.

وفي أحاديث أهل البيت: دعوة واضحة وصريحة إلى هذا الانفتاح مع المسلمين والتعايش الإيجابي، والتواصل، والتعاطف، والتعاون معهم، وإليك نماذج من أحاديث أهل البيت: في هذا الشأن:

روى محمد بن يعقوب الكليني بسند صحيح في الكافي عن أبي اسامة زيد الشحّام قال: قال أبو عبدالله (ع): «أقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم، ويأخذ بقولي السلام، أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد ( (ص)). وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، وأنّ رسول الله ( (ص)) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط.

صِلُوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث و أدّى الأمانة، وحسن خلقه مع

ص: 221

الناس قيل: هذا جعفري، فَيسُرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر، والله لحدثني أبي 7 إنّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليّ فيكون زينها، أدّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، واليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان أنّه أدّانا للأمانة، وأصدقنا للحديث» (1).

وأيضاً بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبدالله الصادق (ع): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ قال: فقال (ع) «تؤدون الأمانة إليهم وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم»(2) .

وأيضاً بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: قلت له (الصادق (ع)): كيف ينبغي أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ومن ليسوا على أمرنا فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة لهم»(3) .

وفي رواية اخرى للكليني في الكافي بسند صحيح عن حبيب الحنفي قال: سمعت أبا عبدالله الصادق (ع) يقول: «عليكم بالورع والاجتهاد، و أشهدوا الجنائز، و عودوا المرضى، وأحضروا مع قومكم مساجدهم، وأحبّوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حقّ جاره» (4).

وبسند صحيح عن مرازم قال: قال أبو عبدالله الصادق (ع): «عليكم بالصلاة


1- وسائل الشيعة 398: 8، كتاب الحجّ آداب أحكام العشرة، الباب الأوّل، ح 1
2- المصدر السابق، ح 2
3- المصدر السابق، ح 3
4- وسائل الشيعة 399: 8، كتاب الحجّ آداب أحكام العشرة، الباب الأوّل، ح 4

ص: 222

في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنه لابدّ لكم من الناس، أنّ أحداً لا يستغني عن الناس في حياته، والناس لابد لبعضهم من بعض» (1).

ثالثاً- الأعمال والمشاريع المشتركة

اشارة

قرأنا فيما سبق أنّ النقاط الثلاثة التالية من أفضل المناهج لمكافحة الفتنة الطائفية .. وهذه الثلاثة هي:

1- الوعي والخطاب.

2- اللقاء والحوار.

3- العمل المشترك.

وقد تحدثنا فيما مضى عن النقطة الأولى والثانية، وها نحن نتحدث إن شاء الله عن النقطة الثالثة، وهي العمل المشترك، سواءً كان العمل في المجال العملي والثقافي أم في مساحة العمل السياسي، أم في المساحة الاقتصادية.

والتجارب العديدة التي مارسها المسلمون في الآونة الأخيرة في المشاريع الاقتصادية والفقهية تؤكّد هذا المعنى.

و نظراً للتحديات العظيمة التي يواجهها المسلمون اليوم لابدّ من مواجهة هذه التحديات بالمشاريع الإسلامية السياسية، والاقتصادية، والثقافية، التي يشترك فيها عامّة المسلمين من كل المذاهب والشرائح الإسلامية، فلم تعد الأعمال الفردية، و التي تقوم بها طائفة من المسلمين كافية لمقابلة هذه التحديات، فإنّ التحديات التي تواجهنا في ساحتنا أكبر من أن نقابلها بمثل هذه المشاريع.

إنّ مشاريعنا السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية يجب أن تكون بحجم


1- المصدر السابق، ح 5

ص: 223

الأمة كلها .. عندئذ تكون يد الله مع هذه المشاريع، وعليها، إن شاء الله تعالى.

وعندئذ تكون هذه المشاريع والأعمال قادرة على مقابلة التحديات القويّة التي تواجهنا في ساحة عملنا.

جدلية الشرعية و الواقع:

وسوف أتحدّث عن واحدة من هذه التحدّيات التي تواجهنا في حياتنا السياسية والثقافية، و لايتأتّى لنا مقاومتها و إحباطها إلّا ضمن مشروع سياسي وثقافي كبير، وبتضامن إسلامي واسع على قدر سعة هذه الأمة.

أمامنا قضيتان متخالفتان ومتقاطعتان، في ساحة حياتنا و يجب علينا أن نتعامل معها بالضرورة، وليس بوسعنا التشكيك في أي منهما، وليس بوسعنا الإعراض عن أي منها أو كليهما ومقابلته باللامبالاة.

وليس بوسع أحد أن يشك في هذه الحقيقة، وقد تلوت عليكم قريباً قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وَأنَا ربُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).

وقوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً وأنَا ربُّكُمْ فَاتَّقُونِ).

وهذه حقيقة من حقائق الوحي.

و وحدة الأمة بوحدة ولائها وبراءتها، من غير شك ولا ترديد، وإذا تعددت الولاءات والبراءات تتعدد الأمة، ولا تبقى الأمة واحدة، كما تخبرنا بها سورة (الأنبياء) و (المؤمنون).

و لايمكن فصل القيادة السياسية والنظام والقرار السياسي عن مسألة الولاء.

كما لايمكن فصل التقاطعات والصراعات السياسية والعسكرية بين الأنظمة عن مسألة البراءة ...

ص: 224

أقول إنّ وحدة الأمة بوحدة ولائها وبراءتها، فإنّ الولاء للقيادة السياسية الصالحة للأمة تأتي في امتداد الولاية لله ولرسوله ولأولي الأمر .. يقول تعالى: (أطِيعُواْ اللّهَ وَ أطِيعُواْ الرَّسُولَ وَ اوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ) ((1) ).

و وجود ولائين أو أكثر من ذلك- في عرض بعض- ينافي وحدة الأمة ... فضلًا عما إذا كانت هذه الولاءات متعارضة فيما بينها، كما هو حاصل عادة في الأنظمة السياسية المتعددة الواقعة على خطوط سياسية متعددة.

أما الولاءات السياسية الطولية (التي يقع بعضها في امتداد بعض) فلا تنافي وحدة الأمة مهما تعددت وكثرت.

إذن لهذه الأمة، طبقاً لهاتين الآيتين الكريمتين من سورتي الأنبياء والمؤمنون قيادة واحدة صالحة .. وهذه هي الحالة الشرعية التي نطلبها في نظام الحكم والقيادة السياسية للعالم الإسلامي.

هذه هي القضية الأولى (: الشرعية).

القضية الثانية: قيام أنظمة متعددة من الحكم في طول العالم الإسلامي وعرضها ...

و هذه الأنظمة- في الأغلب- لا تمثّل الحالة الشرعية لأنها غير صالحة، وغير مؤتمنة على دين الناس ودنياهم، وغير منتخبة من قبل الناس، وإنما تُفرض على الناس بآليات عسكرية، أو عبر وسائل أنظمة الاستكبار العالمي ... وهذه الأنظمة تفرض طاعتها والالتزام بقراراتها على الناس بالنار والحديد والعنف .. والتغرير والتجهيل الإعلامي.

ولابد للناس من الالتزام بقرارات هذه الأنظمة: وهذا هو (الأمر الواقع)


1- النساء: 59

ص: 225

اللاشرعي.

و بين هذا (الأمر الواقع) و (الشرعية) تقاطع شديد ولكل منهما ثقافة، وسياسة، وقوانين، وأنظمة، وآليات، وقوة للتنفيذ.

هذه هي الجدلية القائمة بين (الشرعية) و (الأمر الواقع).

ماهو تكليف المسلم تجاه هاتين القضيتين (الشرعية المحظورة) و (الواقع المفروض).

(فلا يجوز) الاستسلام للأمر الواقع المفروض، وإلغاء الحالة الشرعية، و (لايمكن) تجاوز الأمر الواقع المفروض بالقوة من قبل الأنظمة ..

هذه هي الجدلية بين (ما لا يجوز) و (ما لا يمكن) وهي جدلية قديمة في التاريخ الإسلامي.

فما هو موقف (الفقه الإسلامي) تجاه هذه الجدلية الصعبة.

منهج أهل البيت (عليهم السلام) الفقهي

إنّ منهج أهل البيت: الفقهي تجاه هذه الجدلية في الفترة الطويلة التي عاشوها في العصر الأموي والعباسي، تتلخص في ثلاث نقاط:

1- النهي عن إسناد هذه الأنظمة ودعمها، وتحريم (التعاون مع الظلمة)، فلايجوز للمسلم أن يقوم بأيّ عمل فيه إسناد و دعم لهذه الأنظمة غير الصالحة بأي شكل، ولو كان ذلك بإعداد ليقة دواة للحاكم الظالم .. وقد وردت روايات كثيرة عن أهل البيت: في هذا المعنى؛ راجع أبواب: (حرمة التعاون مع الظلمة) في مباحث المكاسب المحرمة، و كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، في وسائل الشيعة وسائر كتب الحديث والفقه.

2- الأمر بمعايشة الواقع السياسي الاجتماعي لأنّ الانفصال عنه بمعنى الخروج

ص: 226

من ساحة الحياة والانتحار السياسي والاقتصادي.

ولا مناص للمسلمين من أن ينتظم أمر معاشهم ومعادهم ضمن هذا الواقع، و لامناص لهم من أن يعايشوا هذا الواقع، لتستقيم لهم أمور معاشهم و دينهم .. حتى لو يتطلب الأمر أن ينضمَّ المؤمنون إلى مواقع المسؤولية من هذه الأنظمة الفاسدة، ولكن لا لغاية إنعاشها ودعمها، وإنما لغاية تحقيق الضمان لمعيشة المؤمنين وخدمة الناس في معايشهم ومكاسبهم؛ (راجع الروايات الواردة في مستثنيات التعاون مع الظلمة و أبواب التقية).

فلايستغني الناس عن المدارس والجامعات، وجهاز الشرطة، والمستشفيات، والمؤسسات الخدمية وغيرها، وكل هذه المؤسسات مؤسسات قائمة ضمن هذه الأنظمة الفاسدة ... لاحيلة للناس عنها، فيجوز الدخول في هذه المؤسسات لخدمة الناس، و يجوز الاستفادة من هذه المؤسسات، و من دون ذلك تتعطل حياة الناس، والله تعالى لا يريد تعطيل حياة الناس.

وبين الأمر الأول (المحظور)، والأمر الثاني (السائغ) فرق واضح.

3- العمل على تحويل هذا الواقع الفاسد إلى نظام صالح، و قيادة صالحة و قوانين وتشريعات صالحة.

و هذه النقطة الأخيرة تختلف من مجتمع إلى مجمع، فقد يتم ذلك عن طريق ثورة مسلحة، وقد يكون ذلك عن طريق الترحيل الثقافي والتبليغي للناس، و قد يكون بالوسائل الديمقراطية الحديثة، التي تمكّن الأكثرية الصالحة من الوصول إلى مواقع الحكم و تغيير الحكم إلى نظام صالح، و قيادة صالحة، بصورة سليمة، أو غير ذلك من الوسائل و الآليات؛ (راجع روايات باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبواب الجهاد).

و هذه ثلاثة مشاريع عمل إسلامية سياسية، تتطلب مشاركة عامة من

ص: 227

المسلمين، من كل المذاهب والفرق والشعوب الإسلامية التي تعاني من سلطة الحكومات الظالمة.

1- مقاطعة الأنظمة الفاسدة وتحريم دعمها وإسنادها، ووجوب عزل هذه الأنظمة عن الأمة والتشهير بها وتسقيطها.

2- المشاركة الإيجابية في كل مسالك الحياة السياسية، و الاقتصادية، و الاجتماعية، و النفوذ إلى مواقع مختلفة من الحكم بهذه الذهنية، و لهذه الغاية.

3- مشاريع أسلمة الأنظمة، وإقامة الدولة الإسلامية، على أسس شرعية، و ترحيل الحالة السياسية إلى قيام حكومة عالمية إسلامية صالحة، كما وعدنا الله تعالى في كتابه .. وهذا المشروع يختلف من بلد إلى بلد، و من حالة سياسية إلى حالة أخرى، و لا يخضع لوصفة سياسية أو حركية واحدة.

المشروع السياسي الإسلامي

الأنظمة في العالم الإسلامي- في الغالب- غير صالحة، و لا يمكن الاعتماد عليها في تقرير الموقف الإسلامي من القضايا السياسية الكبرى في العالم الإسلامي .. ومن الواضح أنّ المواقف الرسمية للأنظمة تجاه القضايا الكبرى تبقى خاضعة لتأثير الدول الكبرى، و ليس بوسع هذه الأنظمة أن تتجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها دول الاستكبار العالمي ...

نعم، هناك مساحات صفراء يتحرك عليها هؤلاء الحكام .. وقد تكون هذه الحركة مخالفة لقرارات الدول الكبرى ...

أما الخطوط الحمراء، فليس بوسع هذه الأنظمة تجاوزها، مهما كان الثمن الذي تدفعها هذه الأنظمة .. مثل النفط، فليس بوسع هذه الأنظمة أن تستخدم «النفط» في قضايا الأمة السياسية، والعكس حاصل فعلًا، فانّ الدول الكبرى، و مجلس

ص: 228

الأمن يستخدمان العامل الاقتصادي سلاحاً قاطعاً في قراراتها السياسية، و في عقوبة الأنظمة التي تتجاوز الخطوط الحمراء، في حين لا يجرأ حُكّامنا، أو لايملكون في أكثر مناطق العالم الإسلامي، تجاوز الخطوط الحمراء، فيما يتعلق بأنظمة الاستكبار العالمي.

ومهما يكن السبب، فإنّ الساحة الإسلامية الواسعة، لاتمتلك اليوم مقومات القرار، و الموقف السياسي الراشد الإسلامي، إلّا ما يصدر بصورة عفوية من مواقف و قرارات، يتبناه جمهور المسلمين في مختلف أقاليم العالم الإسلامي، كما رأينا ذلك في التعاطف الشديد لمواقف المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان (حزب الله)، من جانب جماهير المسلمين في كل أقاليم العالم الإسلامي، وفي المهاجر الغربية.

و رغم أنّ الأنظمة العربية- في الغالب- كانت ممتعضة من انتصار المقاومة، و ماسجلتها من انتصارات باهرة خلال 33 يوماً إلّا أنّ تيار التضامن و التعاطف الإسلامي مع حزب الله كان أقوى من أن تعاكسها الأنظمة، و أدواتها الإعلامية المسخّرة لخدمة مواقفها السياسية ... و لكن هذه الأنظمة تمكّنت أخيراً من إبراز كراهيتها لانتصار حزب الله، في الاصطفاف الواسع الذي قامت به إلى جانب فؤاد السنيورة، وجعجع، والحريري، وجنبلاط، في إفشال مشروع حكومة الوحدة الوطنية التي دعت إليها المعارضة .. و في مقدمتها حزب الله؛ ولولا التصرف العقلائي لحزب الله في هذا الموقف المعارض لاستئثار الأقلية بالحكم في لبنان، لكانت العاقبة حرباً أهلية واسعة في لبنان، إلّا أنّ (حزب الله) آثر ممارسة الاعتراض، بصورة سلمية، حتى عندما كانت الحكومة تقابل المعارضة بالعنف .. و كفى الله اللبنانيين القتال.

ومهما يكن من أمر فلابدّ للساحة الإسلامية الكبرى من أدوات نابعة من

ص: 229

إرادة الأمّة، و من عمق الساحة لتنضيج القرار السياسي الذي يهم الأمة- كلها- و لتوحيد الرأي، والموقف السياسي في القضايا الكبرى، و تعميمها على كل الساحة الإسلامية، و تحشيد الرأي العام الإسلامي لإسناده، و الوقوف إلى جانبه، و تفعيله في الساحة من خلال المسيرات، والاحتجاجات، والهتافات، والإعلاميات، والآليات المشاعة التي يمتلكها الشارع، للتعبير عن موقفه، ورأيه، واعتراضه، واحتجاجه، وحبّه، وبغضه.

ومن دون وجود مشروع سياسي- مثل هذا المشروع- ينضّج الرأي السياسي الراشد الناضج الموحّد، تبقى الساحة معرّضة لأمواج الفتن السياسية، و ضغوط وسائل الإعلام الرسمية التي تجعل من الحق باطلًا ومن الباطل حقاً، و تقرّب البعيد، و تبعّد القريب.

وتبقى الساحة الإسلامية تتخبط بين اختلاف الآراء والمواقف، والفتن، والضغوط الإعلامية.

ولكي تسلم الساحة الإسلامية الكبرى من هذا التخبّط، لابدّ من مشروع سياسي إسلامي كبير، خارج حوزة نفوذ هذه الأنظمة، تمارس هذه المسؤولية في تنضيج القرار، والموقف الإسلامي، وتوحيده، وتعميقه، وتفعيله في الساحة.

ولابدّ أن يمثّل هذا المشروع السياسي كل الشرائح والمذاهب والأقاليم الإسلامية تمثيلًا صادقاً حقيقياً، ليكون لرأي هذا التجمع الإسلامي، النفوذ والتأثير الفعلي على كل الساحة الإسلامية.

ويكون هذا التجمّع مركزاً لتنضيج القرار الإسلامي الراشد الذي تتبناه الساحة الإسلامية كلها، في المسائل الأمّ الكبرى في العالم الإسلامي، مثل قضية القدس والمسجد الأقصى، والقضية الفلسطينية، والاحتلال الإسرائيلي لأجزاء واسعة من أراضي الوطن الإسلامي من سوريا ومصر والأردن ولبنان؛ ومثل المشكلة

ص: 230

الصومالية، و تدخل القوى المتعددة الجنسيات في دارفور؛ والمشروع الإيراني النووي السلمي؛ و الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق؛ والموقف الأمريكي المعادي للقضية الفلسطينية، والداعم لإسرائيل؛ والموقف البريطاني، بل الاتحاد الأوروبي من دعم المرتد سلمان رشدي؛ والموقف الروسي المتعنت من الولايات الإسلامية كالشيشان، وقضية الصحراء المغربية، واضطهاد الأنظمة في العالم الإسلامي لأبناء الحركة الإسلامية، كما في الجزائر وتونس ومصر، وكما في العراق في عهد الطاغية، ومثل الصراع الفلسطيني- الفلسطيني بين حماس وفتح، والدعم الإسرائيلي والأوربي والأمريكي والعربي لفتح، وتضييق الحصار على غزة وحماس إقتصادياً وسياسياً، وعزل حماس عزلًا سياسياً كاملًا ... و أمثال ذلك، و التخريب الواسع الذي قامت به إسرائيل للبنان، انتقاماً لانتصار حزب الله عليها في الحرب التي دارت بينها و بين حزب الله في جنوب لبنان، و سكوت الدول الغربية- الأوروبية و الأمريكية- برمّتها تجاه هذا العدوان السافر على لبنان، و دعم الموقف الإسرائيلي بشكل مطلق، بكل أشكال الإسناد والدعم ... وأمثال ذلك.

و قد يتساءل أحد عن الصيغة العملية لهذا المشروع السياسي ... فأقول: إنني لست بصدد عرض صيغة محددة لهذا المشروع السياسي ... يمكن أن يكون على هيئة مؤتمر دوري لأهل الحل والعقد من المسلمين، ويمكن أن يكون بصيغة أخرى ... و أيّاً ما تكون الصيغة العملية لهذا المشروع، فهو مركز سياسي، يمثل الأمّة الإسلامية، بعرضها العريض، في تنضيج القرارات، و التوصيات السياسية، و الاقتصادية، و الثقافية، وغيرها، و بلورتها و تقديمها، في الأمور التي تهمّ الأمّة، و يكون هذا المركز في مقابل مراكز القرار الرسمية للأنظمة، يعبّر عن إرادة الناس و انتمائهم، و هويتهم الإسلامية ... و هو أمر قائم فعلًا، في بعض الحدود، و لكن يحتاج إلى تثبيت، و تطوير، و توسعة، و تعديل، و تقنين، و تبني من قبل المسلمين.

ص: 231

تساؤلات حول هذا المشروع

وقد يثير أحد حول هذا المشروع التساؤلات التالية:

1- أين يمكن إقامة هذا المشروع السياسي المستقل، عن الإرادة الأمريكية- و الدول الغربية، و أمريكا تقول اليوم للسحاب: أينما تذهبين فإنّك تمطرين في مساحة نفوذي و سلطاني.

2- ما جدوى رأي هذا المركز السياسي إذا كان لا يملك آلية التنفيذ في مقابل قرارات الأنظمة التي ينفذها أصحابها بالإرهاب والإعلام.

3- و كيف يمكن عزل رأي هذا المركز أو توصياته عن تأثير و نفوذ الأنظمة ودول الاستكبار العالمي، في هذه الدنيا المتشابكة المتداخلة.

والجواب عن السؤال الأول:

إنّ ارض الله واسعة، و نحن لدينا مناقشات جوهرية في صدقية النفوذ الأمريكي الكوني المطلق، ليس هنا مجال بسط الكلام فيها.

وعن السؤال الثاني:

أقول إنّ رأي هذا المشروع وتوصياته، يكون مدعوماً بالرأي العام الإسلامي، وسوف يكون له دور واضح في تعديل القرارات السياسية للأنظمة إن لم تكن قادرة على إلغائها.

وعن التساؤل الثالث:

لا ننفي إمكانية نفوذ الأنظمة ومن ورائها أنظمة الاستكبار العالمي إلى صلب هذا المركز وآرائه وتوصياته، ولكنه على كل حال إمكانية محدودة و ليست مطلقة، و لايمكن أن يحقق أي مشروع سياسي في هذه الدنيا المتداخلة المتشابكة غايته بصورة مطلقة.

ص: 232

وبعد فإننا نرى أنّ أمثال هذه المشاريع طموحات سياسية واقعية، يمكن أن نسعى إليها وليست ضرباً من أحلام اليقظة في واقعنا السياسي المعاش.

المرجعية السياسية للعالم الإسلامي:

نحن اليوم أمة فاعلة قوية على وجه الأرض؛ و لهذه الأمة ثقل كبير في المعادلات السياسية، وحضور واسع في القضايا السياسية ذات الشأن بالحالة الإسلامية خصوصاً، وبالحالة الكونية عموماً.

ورغم أنّ أكثر الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي تعمل لتشتيت هذه القوة الكبرى على وجه الأرض، لكن تبقى الأمة الإسلامية التحدي الأكبر للغرب؛ و الذين يقرءون التاريخ و المستقبل من المنظّرين في الغرب يفهمون هذه الحقيقة، و ينذرون أنظمة الاستكبار الغربي من هذا العملاق الذي بدأ ينهض من سباته في القرن العشرين.

و في ضوء هذا الفهم نقول:

1- إنّ الحقائق المتقدمة في نهضة الأمة بعرضها العريض لايمكن أن تخفى على مراكز الرصد الاستكباري في الغرب.

2- و لابدّ أن تلقى هذه الأمة تحديات صعبة من ناحية الغرب لإحباط المشروع الإسلامي الكوني الكبير.

3- و لاتخصّ هذه التحديات إقليماً، أو قوماً و مذهباً من المذاهب، وإنما تعم الأمة الإسلامية برمّتها، لأنّ هذه الأمة هي التربة الصالحة للمشروع الكوني الذي يخبرنا به الله تعالى في كتابه: (وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبوُرِ مِن بعْدِ الذِّكْرِ أنّ الأرضَ يَرثُهَا عِبَادِىَ الصَّالحوُن) والذي يتنبّأ به المنظرون في الغرب.

4- إذن المسلمون جميعاً في مواجهة صراع حضاري، وعسكري، وسياسي،

ص: 233

وثقافي قاس، من أقسى ما يعرفه تاريخ الإنسان من الصراعات الحضارية السياسية، والعسكرية، شئنا ذلك أم أبينا.

والمطالبة بالمعايشة السلمية، وشجب الحروب والصراعات، لايعفينا من هذه المعركة .. و لسنا نحن الذين ندفع الغرب إلى مثل هذا الصراع، و إنما العكس هو الصحيح، الغرب هو الذي يدفعنا إلى مثل هذه المعركة ... فإنّ الكيانات السياسية، والعسكرية، والثقافية في الغرب، يرون أنهم قد وصلوا إلى نهايات التاريخ، والعاقبة التي آل إليها أمر الاتحاد السوفيتي ليس ببعيد عنهم، والقوانين والسنن التي آلت إلى سقوط الاتحاد السوفيتي هي التي تؤول بهم إلى تلك العاقبة؛ و هم يدافعون عن أنفسهم في معركة مصيرية بالنسبة لحضارتهم، وكيانهم الاقتصادي، والسياسي، والعسكري، ومن الطبيعي أن يكون هذا الصراع أشرس صراع يعرفه الإنسان، لأنه صراع على الموت والحياة.

5- و من أفدح الخطأ أن ندخل هذا الصراع من غير الإعداد المكافئ لهذه المعركة الحضارية، ومن غير الإعداد لآليات هذا الصراع .. والدخول في مثل هذه المعركة من غير الإعداد المكافئ لها يعادل الفشل والهزيمة فيها ... يقول تعالى: (وَأعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) ((1) ) وليست القوة كلها في السلاح، وإن كان السلاح من مقومات ساحة القتال، إلّا أنّ دائرة الإعداد الذي يأمرنا به الله تعالى أوسع من السلاح.

6- و من أهم الآليات التي تُعِدُّ هذه الأمة لدخول مثل هذه المعركة التي نتوقعها كل حين، بل نعايشها اليوم، دون أن ننتبه لها .. في مقدمة هذه الآليات (: المرجعية السياسية الواحدة للأمة الإسلامية) ... فليس من الممكن أن تدخل هذه الأمة صراعاً سياسياً، وحضارياً واسعاً، وتواجه تحديات كثيرة، دون أن تمتلك الأمّة


1- الأنفال: 60

ص: 234

(مرجعية سياسية)، توحّد قرارها، وموقعها، وصفّها.

إنّ وحدة الأمة، و وحدة القرار السياسي، لاتتحقق إلّا من خلال الآليات التي أعدّها الله تعالى لذلك، وفي مقدمة هذه الآليات المرجعية السياسية التي يسميها الفقهاء ب- (ولاية الأمر).

يقول تعالى: (أطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعُواْ الرَّسُولَ وَ اولِى الأَمْرِ مِنكُمْ).

7- و (الموقع الأول) و (الموقع الثاني) الذين تحدّثنا عنهما مؤسستان إسلاميتان للأمة الإسلامية كلها تتكاملان، يؤدي الأولى دور الشورى وتنضيج القرار السياسي الذي تشير إليه آية الشورى (وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ( (1)) وتقوم الثانية بدور (الولاية السياسية) في حياة المسلمين .. تنفيذاً لقوله تعالى:

(أطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعُواْ الرَّسُولَ وَ اولِى الأَمْرِ مِنكُمْ).

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ((2) ).

في المساحة الاقتصادية

إنّ عملًا واسعاً يجري اليوم لإلحاق أسواق العالم الإسلامي، ومصادر ثرواته الطبيعية بشبكة العولمة الاقتصادية، وهو أمر حاصل بالفعل في بعض الحدود، ولكن الحركة التي تقوم بها الأنظمة في العالم الإسلامي هي إلحاق أسواقنا في العالم الإسلامي وثرواتنا الطبيعية بشبكة العولمة الاقتصادية بشكل كامل .. وهذا الأمر إذا تمّ يجعل من حركتنا الاقتصادية حركة تابعة لاقتصاد الدول الصناعية الكبرى، وتجعل من أسواقنا معرضاً ومحلًا لاستهلاك ما تنتجه المصانع في الدول الصناعية الكبرى، وتجعل مصادرنا الطبيعة للثروة مثل النفط، والكبريت، والصلب، والحديد،


1- الشورى: 38
2- المائدة: 55

ص: 235

والقطن، وقصب السكر، والمطاط، والتمور، مصدراً لتموين المعامل والمصانع في الغرب.

ونتحول من موقع الإنتاج والاكتفاء الاقتصادي إلى مركز لتموين المصانع في الدول الصناعية الكبرى بالمواد الخام التي تحتاجها هذه المصانع، ومحلًا لاستهلاك ما تنتجه هذه المعامل.

و هذه العاقبة، أسوأ عاقبة اقتصادية للعالم الإسلامي، وتؤدي هذه التبعية الاقتصادية إلى تبعية سياسية خالصة، وانهيارات اقتصادية واسعة كما حصل لجنوب شرق آسيا قبل سنين، وتفقدنا حالة الاكتفاء الذاتي في الاقتصاد، بشكل كامل.

وكما يستخدم الغرب الآلة الصناعية والاقتصادية في تحقيق (التبعية السياسية) في العالم الإسلامي، بشكل واسع، كذلك يستخدم الغرب المقاطعة الاقتصادية والحظر الاقتصادي لإخضاع أنظمة العالم الإسلامي لإرادتها السياسية، كما حصل ذلك لإيران وليبيا وسوريا والسودان ... عندما امتنعت من تنفيذ إرادتها.

وقد كان بوسع العالم الإسلامي أن يستخدم الآلة الاقتصادية، مثل تصدير النفط في تعديل بعض المواقف الغربية المتطرفة عموماً، والأمريكية خصوصاً، تجاه العالم الإسلامي، مثل الجنوح المتطرف إلى جانب إسرائيل، والوقوف إلى جانب إسرائيل في كل مراحل عدوانها على فلسطين ولبنان؛ والتشديد على إيران بسبب محاولاتها لتخصيب اليورانيوم، والوصول إلى مرحلة استخدام الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء وسائر الغايات السلمية، و السكوت عن إسرائيل ومفاعلاتها النووية وترساناتها التي تختزن أكثر من 200 رأساً نووياً جاهزاً للتفجير والعدوان، كما يقول بعض المؤسسات العسكرية.

لو أنّ المسلمين كانوا يستخدمون الآلة الاقتصادية في تعديل المواقف السياسية

ص: 236

الغربية المتطرفة تجاه العالم الإسلامي لتغيّر وجه العلاقات الإسلامية- الغربية، ولم يتمكن الغرب من أن يمارس هذا النفوذ الواسع في العالم الإسلامي، ولم يسع الغرب أن يستهتر بهذه الصورة بكل القيم الدبلوماسية، والسياسية، في علاقاتها بالعالم الإسلامي.

ولكن ما الحيلة إذا كان حكام العالم الإسلامي في الغالب لا يجرءون على التطوّل على الإرادة السياسية الغربية، وبشكل خاص الإرادة السياسية الأمريكية، ولا يمتلكون الشجاعة الكافية لاتخاذ أي قرار سياسي أو اقتصادي يعارض مصالح أنظمة الاستكبار العالمي، ويتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة لهم؟!

إنّ حركة غاصبة عفوية قامت بها جماهيرنا في مقاطعة البضائع الدنماركية، عندما أساءت صحيفة دانمركية إلى رسول الله (ص)، وامتنعت الدانمارك من الاعتذار إلى المسلمين ومعاقبة الصحيفة، كان لها تأثير كبير في تعديل موقف الحكومة الدانمركية والحكومات الاسكندنافية، التي وقفت إلى جانب الدانمارك في حينه.

إنّ الموقف الصحيح في هذه المسألة الخطيرة هو الحضور المليوني الموحّد في الساحة، و الهتاف بمقاطعه العولمة الاقتصادية الزاحفة إلى العالم الإسلامي، والمطالبة باستخدام الآلة الاقتصادية في قضايانا السياسية الأُم، والمناداة بتحرير أسواقنا من سيطرة البضاعة التي تصدرها إلينا الدول الصناعية الكبرى؛ والدعوة إلى تحرير مصادرنا الطبيعية للثروة وإنتاجنا الزراعي والحيواني من نفوذ الدول الكبرى، والمناداة بالوصول إلى حالة الاكتفاء الذاتي، والتشهير بالأنظمة والحكام الذين يستخدمون مواقعهم في الحكم لتمكين النفوذ الاقتصادي الغربي والشرقي (الاستكباري) من أسواقنا ومصادرنا الطبيعة، ودعوة الجمهور إلى استخدام المقاطعة الاقتصادية عندما يتطلب الأمر، ويتقاعس الحكّام، و يجبنون عن اتخاذ القرار الاقتصادي المناسب.

ص: 237

إنّ الحضور الواعي القوي للأمة في الساحة الإسلامية، في كل المراكز والحواضر والعواصم الإسلامية يؤدي بالضرورة إلى تعديل قرار كثير من الأنظمة، والحكام الذين يحكمون العالم الإسلامي، كما يؤدي إلى تعديل القرارات الاقتصادية والسياسية لدول الاستكبار العالمي تجاه العالم الإسلامي، وتخفيف الضغوط السياسية و الاقتصادية عليه.

الوعي والخطاب

الجماعة، واللقاء، والحوار

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.